أسماء عبدالعظيم: تكتب ليسوا سيئين.. ما لم نفهمه عن أبنائنا

أسماء عبدالعظيم تكتب: ليسوا سيئين.. ما لم نفهمه عن أبنائنا

مقالات الرأي

🖊️ بقلم ـ أسماء
🖊️ بقلم ـ أسماء عبدالعظيم

في أحد الأحياء العادية، كان هناك طفل يُعرف بين الجميع بأنه “مؤدب زيادة عن اللزوم”. لا يرفع صوته، لا يعترض، ولا يُخطئ أبدًا. كان الكبار يمدحونه، بينما لا أحد انتبه أنه لا يضحك كثيرًا، ولا يسأل، ولا يحكي عن نفسه. بعد سنوات، كبر هذا الطفل، لكنه لم يعرف كيف يقول “لا”، ولم يعرف كيف يطلب حقه، كان مهذبًا مع العالم… قاسيًا على نفسه. تلك كانت تربية بلا صراخ، لكنها أيضًا بلا أمان.

وفي بيت آخر، كانت أم تعتذر كثيرًا. تعتذر حين تخطئ، وحين تغضب، وحين ترفع صوتها دون قصد. كبر ابنها وهو يعرف أن الخطأ لا يعني نهاية العلاقة، وأن الاعتذار قوة لا ضعف. هذا الطفل لم يكن مثاليًا، لكنه كان صادقًا، لا يخاف من قول الحقيقة، لأنه تعلّم أن الصدق لا يُقابل دائمًا بالعقاب.

طفل ثالث كان يكذب كثيرًا. ظن الجميع أن الكذب طبع فيه، وأنه يحتاج إلى قسوة ليعتدل. لم يسأل أحد لماذا يكذب. الحقيقة أنه كان يخاف. يخاف من العقاب، من المقارنة، من خيبة الأمل في عيون الكبار. كان الكذب طريقته الوحيدة للنجاة. وحين تغيّر الأسلوب، وتحوّل البيت من ساحة محاكمة إلى مساحة أمان، اختفى الكذب تدريجيًا، كأنه لم يكن.

وفي مدرسة مزدحمة، كانت هناك فتاة ذكية، لكن صامتة. كلما سُئلت قالت: “مش عارفة”، رغم أنها تعرف. في بيتها، كان الرأي يُقابل بالاستهانة، والصوت المرتفع هو الوحيد المسموع. تعلّمت أن الصمت أأمن من الكلام. لم تكن تفتقد الذكاء، كانت تفتقد الإذن بأن تكون مرئية.

وفي المقابل، كان هناك بيت صغير مليء بالفوضى، لكن مليء بالضحك. أم تتعب، تغضب، ثم تحتوي. أب يخطئ، ثم يصلح. أطفال يختلفون، ثم يتصالحون. لم يكن بيتًا مثاليًا، لكنه كان حقيقيًا. كبر أطفاله وهم يعرفون أن الحياة ليست كاملة، لكنها قابلة للإصلاح.

هذه القصص لا تُحكى للتجريم، بل للفهم. التربية ليست قالبًا واحدًا، لكنها أثر. كل كلمة، كل نظرة، كل تجاهل، يترك بصمة. نحن لا نصنع أبناءنا في لحظات الشدة فقط، بل في لحظات الهدوء، في طريقة استماعنا، وفي ردود أفعالنا الأولى.

الأم في كل هذه الحكايات كانت محورًا أساسيًا. أحيانًا قوية، وأحيانًا متعبة، لكنها دائمًا صاحبة الأثر الأعمق. من بين يديها يتعلّم الطفل هل العالم مكان آمن أم ساحة قتال، هل الخطأ فرصة للتعلّم أم جريمة تستحق العقاب.

وفي النهاية، حين نعيد قراءة هذه الحكايات بهدوء، سنكتشف أن التربية لم تكن يومًا في كثرة الكلام ولا في شدّة العقاب، بل في الشعور الذي تركناه داخل الطفل وهو يكبر. بعض الأبناء كبروا وهم يشعرون أنهم مقبولون، فصاروا أكثر اتزانًا، وبعضهم كبر وهو يحاول النجاة، لا العيش، فصار الحمل أثقل مما يحتمل عمره.

التربية الحقيقية لا تُقاس بما يراه الناس من تهذيب خارجي، بل بما لا يراه أحد؛ بما يحمله الابن في داخله حين يُغلِق الباب على نفسه، حين يفشل، حين يُخطئ، حين يخاف، وحين يحتاج إلى الأمان. هل يجد صوتًا داخليًا يطمئنه أم يجلده؟ هل يشعر أن البيت ما زال مكانًا يمكن العودة إليه، أم أنه أصبح مجرد ذكرى؟

نحن لا نُربّي أبناءنا لنُرضي المجتمع، بل لنُنجّيهم من قسوته. لا نُربّيهم ليكونوا بلا أخطاء، بل ليعرفوا أن الخطأ لا يسلبهم قيمتهم. نُربّيهم ليعرفوا أنفسهم، ويحترموا حدودهم، ويستطيعوا الوقوف دون أن يدوسوا غيرهم، ويحبّوا دون أن يفقدوا ذواتهم.

والأم، رغم تعبها وضعفها أحيانًا، تظل هي الأثر الأطول عمرًا. منها يتعلّم الطفل كيف ينظر إلى نفسه، وكيف يتعامل مع الحياة. قد لا تتذكّر الأم كل ما قالته، لكن الطفل سيتذكّر دائمًا كيف شعر وهو معها. سيحمل هذا الشعور معه أينما ذهب، وسيبني به علاقاته، واختياراته، وصورته عن نفسه.

لذلك، قبل أن نسأل: هل نجحنا في تقويم السلوك؟ علينا أن نسأل: هل تركنا في قلوب أبنائنا ما يكفي من الطمأنينة؟ هل شعروا يومًا أن الحب ثابت لا يتغيّر؟ أن البيت لم يكن ساحة امتحان، بل ملجأ؟ لأن الطفل الذي نشأ آمنًا، سيعرف طريقه في الحياة، حتى لو تعثّر، وسيظل إنسانًا سويًا… وهذا هو جوهر التربية، وأصدق انتصار لها.