د.مصطفي ثابت يكتب: «قمة المجر» بين واشنطن وموسكو.. دلالات المكان وانفعال المتحدثة باسم البيت الأبيض

د.مصطفي ثابت يكتب: «قمة المجر» بين واشنطن وموسكو.. دلالات المكان وانفعال المتحدثة باسم البيت الأبيض

مقالات الرأي

🖋️ بقلم رئيس التحرير
🖋️ بقلم رئيس التحرير - د.مصطفي ثابت

في مشهد أثار دهشة المتابعين، انفعلت المتحدثة باسم البيت الأبيض عندما سألها أحد الصحفيين عن سبب اختيار المجر لاستضافة القمة المرتقبة بين الرئيس الأمريكي والرئيس الروسي، وعن الجهة التي اقترحت هذا المكان تحديدًا، لتردّ عليه بسخرية قائلة: “أمك طبعًا!” وهو رد غير مسبوق في لغة الدبلوماسية الأمريكية.
لكن خلف هذا الانفعال الساخر تكمن رمزية عميقة لاختيار المكان، وحساسية سياسية بالغة التعقيد في لحظة يعاد فيها رسم خرائط النفوذ داخل أوروبا.

 أولًا: المجر.. أرض الرموز والتوازنات الصعبة

لم يأتِ اختيار العاصمة بودابست صدفة. فالمجر اليوم تمثل حالة خاصة داخل الاتحاد الأوروبي؛ فهي الدولة الوحيدة في المنظومة الأوروبية التي تحافظ على علاقات وثيقة مع موسكو رغم العقوبات الغربية والحرب المشتعلة في أوكرانيا.
رئيس الوزراء فيكتور أوربان يعلن صراحة رفضه لسياسات التصعيد ضد روسيا، ويعارض إرسال السلاح إلى كييف، في الوقت الذي يدعو فيه للحوار والوساطة.

وبالتالي، فإن إقامة القمة في المجر تحمل رمزية “الحياد الرمادي” لا هي أرض معادية لموسكو ولا خاضعة تمامًا لواشنطن.
إنها نقطة وسط جغرافيًا وسياسيًا، تصلح لاحتضان مفاوضات ثقيلة دون أن تُعتبر “انتصارًا” لأي طرف.

 ثانيًا: رمزية المكان في سياق الحرب الأوكرانية

من الناحية الجغرافية، تشترك المجر في حدود مع أوكرانيا، لكنها لم تنخرط عسكريًا في الصراع، ما جعلها دولة “على الهامش الساخن” قريبة من النار ولكنها لم تحترق بها بعد.
اختيارها يعكس  بوضوح رغبة غير معلنة في نقل الحرب من ميادين القتال إلى طاولة التفاهم، وإرسال إشارة بأن واشنطن وموسكو مستعدتان للحديث في منطقة “آمنة نسبيًا” لا تخضع لضغوط الأطلسي ولا لهيمنة الكرملين.

كما أن القمة في المجر يمكن أن تُقرأ كـ رسالة للاتحاد الأوروبي نفسه: أن الولايات المتحدة وروسيا قادرتان على تجاوز الانقسام الأوروبي، والالتقاء في قلب أوروبا الشرقية بعيدًا عن بروكسل وبرلين وباريس.

 ثالثًا: خلفيات الانفعال في المؤتمر الصحفي

أما عن انفعال المتحدثة باسم البيت الأبيض وردّها الغريب، فيبدو أنه لم يكن مجرد زلة لسان، بل انعكاس لتوتر حقيقي داخل أروقة الإدارة الأمريكية.
فالصحفي حين سأل: “من الذي اختار المجر؟” كان يعني ضمنًا: “هل خضعت واشنطن لإرادة موسكو؟”، وهو سؤال يحمل اتهامًا سياسيًا خطيرًا في الداخل الأمريكي.

رد المتحدثة الانفعالي يُفهم في هذا السياق: محاولة دفاعية سريعة لكسر حدّة السؤال بالسخرية، لكنها انزلقت إلى ردّ غير دبلوماسي كشف عمق الحرج الذي يثيره موقع القمة.
ففي السياسة الأمريكية، مجرد القبول بعقد قمة في دولة صديقة لبوتين يُعتبر تنازلًا رمزيًا يصعب تبريره أمام الرأي العام والإعلام الديمقراطي.

 رابعًا: قراءة في الموقف الروسي

من الجانب الروسي، يُعتبر اختيار المجر نصرًا رمزيًا صغيرًا في معركة الصورة والرمز.
فبعد أن حاول الغرب عزلة موسكو، ها هي واشنطن تلتقي بالرئيس الروسي في دولة أوروبية حليفة له، لا في جنيف ولا في باريس.
هذا المشهد وحده يمنح الكرملين ما يسميه المحللون “اعترافًا عمليًا بضرورة الحوار”، بعد سنوات من العقوبات والتجميد الدبلوماسي.

 ختامًا: قمة تتحدث بلغتين لغة السياسة ولغة الرموز

القمة المنتظرة في بودابست، إن عُقدت فعلًا، لن تكون مجرد لقاء ثنائي بين قوتين عظميين، بل رسالة مشفّرة للعالم بأن الصراع الروسي الغربي بدأ ينتقل من منطق “كسب الأرض” إلى “كسب المواقف”.
أما انفعال المتحدثة الأمريكية فربما كان أول مؤشر على أن التوازن بين الكبرياء الأمريكي والبراغماتية الواقعية لم يعد سهلًا في زمن تتغير فيه الخرائط أسرع من التصريحات.

📖 لمزيد من قراءة مقالات رئيس التحرير د. مصطفى ثابت اضغط هنا