أمير عزام يكتب: عصير القصب والقناعات المميتة

مقالات الرأي

أمير عزام
أمير عزام

في زوايا الشوارع المكتظة، وعلى أرصفة المدن المتعبة، يقف بائع عصير القصب خلف عربة صدئة، يدور حولها الذباب كما تدور القناعات حول العقول. العصارة تئنّ من قدمها، تمزّق أعواد القصب الصفراء، وتحولها إلى سائل ذهبي أخضر، يُسكب في أكواب بلاستيكية رخيصة، وتُمدُّ إلى الزبائن بابتسامة باردة، وكأنها تقدم لهم الحياة.

لكنّ الحقيقة، كما هي دومًا، ليست بذاك الصفاء الذي يلمع في الكوب. تحت قشرة الحلاوة تكمن الحكاية: تلك العصارة التي لم تُغسل منذ زمن، الأيادي التي لا تعرف الماء والصابون، الأكواب المعاد استخدامها بلا أدنى تعقيم، والذباب الذي يحط على السائل كما تحط الأوهام على العقل. إنه مشروب مفعم بالحياة... إنما حياة من نوع آخر؛ حياة البكتيريا، والجراثيم، وكل ما يُخفيه الضوء عن أعين العابرين.

ومع ذلك، يزدحم الناس حوله، يشربون حتى آخر قطرة، ثم يمسحون أفواههم برضا، مرددين: "عصير القصب مفيد... ينقّي الكبد، يقوّي المناعة." كم تبدو القناعة هنا أقوى من أي حقيقة! قناعة مزروعة منذ زمن، لا تهتز مهما علت أصوات التحذير. كأنهم يشربون المرض بقناعة الشفاء، ويرحبون بالسم تحت لافتة الصحة.

وهنا تتكشف الصورة الأكبر، صورة الإنسان حين يعتاد القبح ويقنع نفسه أنه جميل، حين يتذوق الخطأ طويلًا حتى يغدو عنده صوابًا. تلك هي القناعات المميتة التي لا تصدر رائحة، ولا تثير شكًّا، لكنها تنهش الروح والعقل بهدوء. مثل عصير القصب تمامًا: مظهره مبهج، طعمه حلو، لكنه حين يُفحص تحت المجهر، تنكشف الكارثة.

تمامًا كما يفعل البعض في دهاليز السياسة. هناك دول صغيرة في حجمها، لكنها بارعة في فنّ التجمّل، ترتدي ثوب البراءة الناصع، وتوزّع الابتسامات على الشاشات، بينما تُخفي في طيّاتها دورًا شريرًا يتغلغل في مفاصل الدول المجاورة. كدولةٍ تتقن لعبة التناقض، تُشبه كوب عصير القصب: ظاهره نقيّ وعذب، وباطنه مفعم بالفساد والخطر. لا يُرى التلوث بالعين المجردة، لكنه موجود، ينساب مع كل رشفة، ويُخدّر الوعي بقناع الطيبة. إنهم يصنعون القناعات تمامًا كما يُصنع العصير، يعصرون الحقيقة، ويصبّونها في قوالب مزيّفة تروق للناس.

إنها ليست قصة عصير فحسب، بل قصة عقول عطشى، ارتضت أن ترتوي من مستنقعات التفكير، واكتفت بما قيل لها دون أن ترى أو تتساءل. وكم من عصائر أخرى نشربها يوميًا، على شكل أفكار، ومبادئ، وموروثات، نحتسيها بنفس القناعة العمياء، وبنفس الاطمئنان القاتل؟

لعلنا نحتاج إلى مرآة لا تعكس وجوهنا، بل أفكارنا... نحتاج إلى عصارة تفرم تلك القناعات الموروثة، وتصفّيها من شوائب العادة والكسل، لنشرب الحقيقة، ولو كانت مرّة.