لهذا كانت حرب أكتوبر معجزة

مقالات الرأي

بوابة الفجر

في تاريخ الشعوب محطات فارقة، لحظات تفيض بالعزة والانتصار، تتجلى فيها روح التحدي، وتصنع فيها الأمم مجدها بدماء أبنائها.

وبما أننا في خضم شهر رمضان المبارك وتحديدا 15 منه، أي بعد 5 أيام من انطلاق شرارة النصر الأكبر في تاريخ مصر الحديث، كانت حرب أكتوبر 1973 واحدة من هذه اللحظات الاستثنائية، بل يمكن القول إنها كانت معجزة بكل المقاييس، ليس فقط من الناحية العسكرية، بل في توحيد صفوف العرب أمام عدو مشترك، وهي الوحدة التي نفتقدها اليوم وسط واقع عربي يمزقه الانقسام والخوف.

ولطالما اعتقدت إسرائيل -بل وروجت- أنها قوة لا تقهر، مستندة إلى دعم غربي مطلق، ومطمئنة إلى ضعف الجبهات العربية وانقسامها.

لكن في السادس من أكتوبر 1973، في يوم مشهود، جاءت الضربة المصرية والسورية كزلزال قلب موازين القوى، وحطم أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يهزم.

كان عبور الجيش المصري قناة السويس واقتحامه خط بارليف المحصن، في عملية عسكرية مذهلة، معجزة هندسية واستراتيجية.

ولم يكن الأمر مجرد هجوم عسكري، بل كان تحديا لمفهوم الهيمنة والغطرسة الإسرائيلية، وإثباتا أن الإرادة عندما تتسلح بالإيمان والتخطيط الدقيق، تستطيع أن تصنع المستحيل.

وفي الجبهة السورية، كانت المعركة لا تقل ضراوة، حيث أظهر الجيش السوري شجاعة وبأسا في مواجهة العدو على جبهة الجولان.

لكن الإعجاز لم يكن فقط في الميدان العسكري، بل في مشهد قل أن يتكرر في التاريخ العربي الحديث، حينما التقت الإرادة السياسية لدول المنطقة على قلب رجل واحد.

كانت حرب أكتوبر لحظة تجلت فيها القوة الحقيقية للأمة العربية، حين وضعت الخلافات جانبا، وتكاتفت خلف مصر وسوريا في معركة المصير.

السعودية، بقيادة الملك فيصل، استخدمت سلاح النفط لأول مرة كسلاح استراتيجي، وقررت حظر تصديره للدول الداعمة لإسرائيل، ما هز الاقتصاد العالمي وأثبت أن العرب يمتلكون أوراق ضغط حقيقية إذا أحسنوا استخدامها.

دول الخليج قدمت دعما ماليا ولوجستيا غير مسبوق، فيما أرسلت العراق والجزائر والمغرب والكويت قوات لدعم الجبهات المصرية والسورية، وشاركت الأردن بقواتها أيضا في العمليات العسكرية.

حتى إيران في عهد الشاه، رغم بعدها عن الصراع العربي-الإسرائيلي، قدمت مساعدات لمصر، في مشهد يثير الكثير من التأمل حول كيف كانت العلاقات الإقليمية في تلك الفترة، مقارنة بما نشهده اليوم من تشرذم وانقسام.

ولم يكن الدعم العربي فقط هو العامل الحاسم، بل إن الاتحاد السوفيتي لعب دورا مهما في إمداد مصر وسوريا بالسلاح، ليقف العالم حينها على حافة مواجهة كبرى بين القوى العظمى.

المفارقة الكبرى أن المعجزة الحقيقية لم تكن في الانتصار العسكري فحسب، بل في هذه الوحدة التي نفتقدها اليوم. بعد 50 عاما من هذا الحدث العظيم، أصبح الواقع العربي أشبه بفسيفساء ممزقة، كل دولة منشغلة بمشكلاتها الداخلية، خائفة من رفع رأسها في وجه الهيمنة الغربية، وغير قادرة على مد يدها لجارتها العربية.

أمريكا وإسرائيل والغرب فهموا الدرس جيدا، في اتحاد العرب نهايتهم، وفي تفرقهم استمرار لمشاريعهم، لذا استبدلوا الحروب العسكرية بالحروب الاقتصادية والسياسية، وزرعوا الفتن الطائفية والعرقية، وانتشرت النزاعات الداخلية حتى باتت كل دولة منشغلة بإطفاء حرائقها الخاصة.

ولم يعد النفط سلاحا، بل تحول إلى ورقة تفاوضية في يد القوى الكبرى، ولم يعد هناك موقف عربي موحد، بل تحولت الجامعة العربية إلى كيان رمزي بلا تأثير.

ولم يعد هناك "سوريا ومصر والسعودية والعراق" كتكتل استراتيجي، بل أصبحنا نعيش في عالم تتحكم فيه المصالح الفردية والخوف من المواجهة.

حرب أكتوبر ليست مجرد ذكرى نحتفل بها سنويا، بل هي درس يجب أن نستوعبه جيدا، لم يكن النصر فيها نتيجة تفوق عسكري فقط، بل كان انعكاسا لوحدة الإرادة السياسية، وقدرة العرب على تجاوز خلافاتهم من أجل قضية واحدة.

إذا كان العرب قد استطاعوا عام 1973 أن يغيروا معادلة القوى، فما الذي يمنعهم اليوم من استعادة تلك الروح؟ ما الذي يجعلهم عاجزين عن الوقوف صفا واحدا أمام مشاريع التقسيم والتبعية؟

الإجابة واضحة "فرق تسد"، تلك القاعدة التي أتقنها الغرب، ونجحت في تفكيكنا، وجعلت كل دولة تخشى أن تكون التالية في قائمة الاستهداف.

لكن الدرس الأكبر من أكتوبر أن الوحدة ليست حلما مستحيلا، بل خيارا استراتيجيا قد يكون صعب التحقيق، لكنه ليس مستحيلا.

ربما نحتاج إلى زلزال جديد، أو لحظة وعي تاريخية، تعيد للأمة وحدتها، قبل أن يأتي يوم نجد فيه أنفسنا غرباء على أرضنا، وتتحول معجزة أكتوبر إلى مجرد قصة من الماضي، نحكيها بحسرة، بدلا من أن نبني على أمجادها مستقبلا يليق بنا.