في ذكري أبطال فبراير

ليلٌ من نار.. عندما صنعت الضفادع البشرية أسطورة القوات الخاصة البحرية

أخبار مصر

أبطال العملية
أبطال العملية

كان الليل حالكًا، والبحر ساكنًا كأنما يحبس أنفاسه انتظارًا للحظة الانفجار، في تلك الليلة من الخامس من فبراير عام 1970، لم تكن المياه الزرقاء العميقة لبحر العقبة تعلم أنها ستشهد واحدة من أجرأ العمليات العسكرية في تاريخ الحروب البحرية.


رجال من نوع خاص، مقاتلون من طراز فريد، تسللوا في صمت، مسلحين بالشجاعة، العزيمة، وبعض الألغام اللاصقة التي ستُغير مجرى التاريخ، هؤلاء هم الضفادع البشرية المصرية، رجال اختاروا أن يجعلوا البحر ميدانهم، وأن يحفروا أسماءهم في سجل البطولة بمدادٍ من العرق والدم.


لم تكن عملية ميناء إيلات ليست مجرد فصل في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، بل هي ملحمة بطولية تروي كيف يمكن للإرادة الصلبة أن تكسر الغطرسة العسكرية، وكيف أن حفنة من الرجال المدربين والمستعدين للتضحية يمكنهم تغيير مسار التاريخ.


أبطال العملية من طراز خاص، رجال تحدوا الأمواج والظلام والمخاطر، ليخطّوا بأجسادهم وأرواحهم قصة مجدٍ لن تُنسى، واليوم وبعد أكثر من نصف قرن على تلك الليلة التاريخية، لا تزال أصداء التفجيرات التي هزت إيلات تذكر العالم بأن المصريين لا يعرفون المستحيل، وأن البحر كان وسيظل شاهدًا على بطولاتهم التي لا تموت.


كانت إسرائيل تظن أن ميناء إيلات، الواقع في أقصى جنوبها، بمأمن من أي هجوم مصري، فالبحر تحت سيطرتها، والميناء محصن بأقصى درجات الحماية، لكن المصريين أثبتوا أن المستحيل مجرد وهم، وأنه عندما يتحدث البحر بلسان الأبطال، فإن الخرائط السياسية والعسكرية تُعاد كتابتها من جديد.


فمنذ نكسة يونيو 1967، تحولت إيلات إلى ميناء حيوي للقوات الإسرائيلية، حيث اعتمدت عليه في تأمين مرور السفن العسكرية والتجارية في البحر الأحمر، ونقل المعدات والإمدادات اللوجستية للقوات المتمركزة في سيناء.


ومع احتلال شرم الشيخ ومضيق تيران، باتت إسرائيل تشعر أنها أحكمت قبضتها على هذا الممر المائي الاستراتيجي، وأن البحر لم يعد يشكل تهديدًا عليها، لكن القيادة المصرية، التي كانت تخوض حرب الاستنزاف بكل الوسائل الممكنة، قررت أن توجه صفعة قوية لهذا الغرور الإسرائيلي، عبر عملية بحرية غير مسبوقة، والهدف كان تدمير السفن الإسرائيلية الراسية في ميناء إيلات، وتعطيل قدرات العدو البحرية.


بدأ التخطيط للعملية في سرية تامة، واختارت القوات البحرية المصرية نخبة من أبطال الضفادع البشرية، وهم مقاتلون تلقوا تدريبات قاسية في السباحة القتالية، الغوص العميق، وزرع الألغام تحت الماء، وكانوا يعلمون أنهم ذاهبون إلى مهمة قد لا يعودون منها، لكن الشجاعة لديهم كانت أقوى من أي مخاوف.


وفي ليلة 5 فبراير 1970، انطلق الأبطال عبر البحر الأحمر، مستخدمين زوارق خاصة نقلتهم إلى مسافة قريبة من ميناء إيلات، ومن هناك غاصوا في المياه الباردة، متسللين بصمت كالأشباح، واستغرقوا ساعات طويلة للوصول إلى أهدافهم، مستخدمين أسلوب الغطس الصامت، حتى لا يلتقطهم رادار أو يشعر بهم أي جندي إسرائيلي.


وفي قلب الميناء، كانت هناك سفينتان إسرائيليتان ترسوان بثقة، دون أن يخطر ببال أحد أن الموت يقترب منهما من تحت الماء، السفينة الأولى "بيت شيفع"، أما السفينة الثانية "بات يم"، فكانت إحدى القطع البحرية التي يعتمد عليها الجيش الإسرائيلي في عملياته اللوجستية.


ببراعة ودقة متناهية، قام الغواصون المصريون بتثبيت الألغام اللاصقة أسفل هياكل السفينتين، مستخدمين تقنية تضمن انفجارها بعد فترة وجيزة، مما يمنحهم الوقت الكافي للانسحاب بأمان، وما إن ابتعدوا إلى مسافة آمنة، حتى دوت الانفجارات، مدمرة السفينتين بالكامل، ومحدثة حالة من الفوضى العارمة في الميناء.


في تلك اللحظة، لم يكن أحد في إسرائيل يتوقع أن يصل المصريون إلى قلب إيلات بهذه القوة، وانتشرت حالة من الهلع بين الجنود والبحارة، وبدأت إسرائيل تدرك أن يد القوات المصرية طويلة، وأنها قادرة على اختراق أكثر المناطق تحصينًا.


وفي القاهرة، استقبلت القيادة المصرية نبأ نجاح العملية بفرح غامر، وكان هذا الانتصار رسالة واضحة بأن الجيش المصري، رغم ظروف الحرب، لا يزال قادرًا على تنفيذ عمليات نوعية ضد العدو، واحتفت الصحف المصرية بالعملية، ووصفت أبطالها بأنهم "نسور الأعماق الذين جعلوا إسرائيل ترتجف في قلب مياهها".


لم تكن هذه العملية مجرد انتصار رمزي، بل كانت لها تأثيرات استراتيجية عميقة، وأدركت إسرائيل أن إيلات لم تعد آمنة، واضطرت إلى تعزيز إجراءاتها الأمنية البحرية، وهو ما قيد حركتها في البحر الأحمر، كما أن نجاح الضفادع البشرية المصرية منح دفعة معنوية هائلة للجيش والشعب المصري، في وقت كانت فيه حرب الاستنزاف لا تزال مستمرة.


لم تكن إسرائيل تتوقع أن تصل يد القوات المصرية إلى قلب مينائها الجنوبي بهذه الجرأة، مما تسبب في صدمة هائلة داخل الأوساط العسكرية والسياسية، عقب الانفجارات، اندلعت حالة من الذعر في إيلات، حيث هرعت القوات الإسرائيلية لتمشيط الميناء والبحث عن أي تهديدات إضافية.


وأدركت القيادة الإسرائيلية أن الجيش المصري لم يعد مجرد قوة دفاعية، بل أصبح يمتلك قدرات هجومية نوعية يمكنها اختراق أكثر المناطق تحصينًا والصحف الإسرائيلية وصفت الهجوم بأنه "كارثة بحرية"، فيما دعا بعض المسؤولين إلى إعادة تقييم الإجراءات الأمنية في البحر الأحمر، وحاول الجيش الإسرائيلي التقليل من حجم الخسائر، لكن صور الحطام التي انتشرت عالميًا أكدت مدى الضرر الذي لحق بالسفن المستهدفة.


وفي واشنطن في ذلك الوقت، أثارت العملية مخاوف من تصعيد أكبر في الصراع العربي الإسرائيلي، خاصة أن البحر الأحمر كان ممرًا حيويًا للتجارة والنقل العسكري وأعربت الخارجية الأمريكية عن قلقها العميق من الهجوم، فيما اعتبرت بعض الصحف الأمريكية أن العملية تمثل تحولًا نوعيًا في حرب الاستنزاف.


وفي الكواليس ناقشت وزارة الدفاع الأمريكية البنتاغون مدى تأثير هذه العملية على توازن القوى البحرية في المنطقة، خاصة أن مصر أثبتت أنها قادرة على استهداف الأصول الإسرائيلية الحيوية.


أما في موسكو، استقبلت الدوائر السياسية والعسكرية نبأ العملية بنوع من الارتياح، إذ رأى الاتحاد السوفيتي أن نجاح القوات الخاصة البحرية المصرية يعكس تطور القدرات القتالية للجيش المصري، المدعوم عسكريًا ولوجستيًا من موسكو، والصحف السوفيتية وصفت العملية بأنها ضربة موجعة للعدوان الإسرائيلي، فيما أشاد بعض القادة العسكريين السوفييت بقدرات الضفادع البشرية المصرية، معتبرين أن هذا النوع من العمليات يحتاج إلى تخطيط عالي المستوى وتدريب شاق.


كما اعتبر الاتحاد السوفيتي أن نجاح العملية يعزز مكانة مصر كقوة إقليمية قادرة على فرض معادلات جديدة في الصراع، وفي العالم العربي، لقيت العملية ترحيبًا واسعًا، حيث اعتبرتها الصحف في دمشق وبغداد وطرابلس ردًا قويًا على الغطرسة الإسرائيلية، وفي ليبيا والجزائر، فقد شهدت بعض المدن مسيرات عفوية احتفالًا بالنجاح المصري، وبرزت دعوات لدعم قدرات الجيش المصري بشكل أكبر.


أما على المستوى السياسي، دفعت العملية بعض الدول العربية إلى إعادة النظر في دعمها لحرب الاستنزاف، حيث بدأت بعض العواصم الخليجية في تقديم مساعدات مالية أكبر للقاهرة، وهو ما ساعد لاحقًا في تعزيز القدرات العسكرية المصرية استعدادًا لحرب أكتوبر 1973.


والأهم من ذلك أن العملية كانت مقدمة للانتصارات الكبرى التي تلتها، وصولًا إلى حرب أكتوبر 1973، حيث لعبت القوات البحرية المصرية دورًا محوريًا في تدمير العدو وإحكام الحصار عليه.
 

مواد متعلقة