"زوجة قلب الأسد".. حكاية "شريفة حسين" مع البطل الذي لم تعرفه إلا بعد رحيله

في لقاء نادر مع برنامج حكاية وطن الذي كان يقدمه الأستاذ عادل حمودة على قناة النهار منذ سنوات، جلست السيدة شريفة حسين إبراهيم تحكي عن حياتها، ولكنها لم تكن تحكي قصة زواج عادي، بل حكاية زواج من رجل استثنائي، رجل لم يكن مجرد ضابط، بل كان واحدًا من أعمدة المخابرات العامة المصرية، وقائدًا لعمليات سرية غيرت مجرى التاريخ، إنه محمد نسيم، الشهير بلقب "قلب الأسد".
عندما تسمع اسم "محمد نسيم"، فأنت أمام شخصية يلفها الغموض، رجل اعتاد العمل في الظل، لكنه كان صانع انتصارات لم يُكشف عن الكثير منها إلا بعد وفاته، وُلد في المنصورة، ونشأ في حي المغربلين بالقاهرة، درس في المدرسة السعدية، لكنه لم يكن مجرد طالب عادي، بل كان وريثًا لروح قتالية غرسها فيه والده، الذي كان بطلًا في الملاكمة، ولم يكن غريبًا أن يتعلم محمد نسيم الملاكمة على يديه، ثم يتفوق فيها، إلى جانب تفوقه في لعبة الهوكي، حيث كان لاعبًا بارعًا في النادي الأهلي.
لكن الرياضة لم تكن سوى البداية، فقد اختار أن يسلك طريق العسكرية، فالتحق بالكلية الحربية وتخرج من للعمل بسلاح المدرعات، ليصبح ضابطًا يحمل بداخله روح المقاتل العنيد، والضابط الذي لا يعرف التراجع، ولم يكن يعلم أن قدره لن يظل في ساحات القتال التقليدية، بل سينتقل إلى ميدان آخر، أكثر خطورة وتعقيدًا، حيث المواجهة ليست فقط بالسلاح، بل بالعقل، والخداع، والدهاء.
كان نسيم يحمل اسمًا غير مألوف في عائلته، فلقب "نسيم" لم يكن لقب العائلة، بل كان اسم جده الذي عمل في وزارة المالية، وكان دائم الابتسام حتى أن الموظفين كانوا يقولون "جاء النسيم" كلما دخل الوزارة،لكنه رغم ذلك، لم يكن نسيمًا في ميدانه، بل كان إعصارًا لا يرحم أعداءه، رجلًا صنع لنفسه مكانًا في أخطر ساحات القتال وساحة المخابرات.
لكن وسط هذه الحياة المعقدة، كان هناك جانب آخر لم يكن يعرفه الكثيرون الجانب الإنساني لمحمد نسيم، رجل المخابرات الصارم كان في بيته زوجًا وأبًا، لكن حياته العائلية لم تكن كسائر البيوت، فزوجته شريفة حسين لم تكن فقط زوجة، بل كانت شريكة في رحلة مليئة بالتحديات، صبرت على غيابه المستمر، وعلى صمت الأسرار، وعلى حياة بلا مواعيد ثابتة، ولم تكن تعلم الكثير عن مهامه، لكنه كان يعود إليها كل مرة حاملًا في عينيه نظرة الرجل الذي عاد من معركة لم يكن مسموحًا له أن يحكي عنها.
وهكذا، لم يكن زواجهما مجرد قصة حب، بل كان شراكة في رحلة شاقة، بدأت بلقاء تقليدي في بيت العائلة، ثم زواج هادئ، قبل أن تتحول حياتها إلى مغامرة غير متوقعة، في ظلال واحدة من أكثر المهن خطورة وغموضًا.
لم تكن شريفة تعرف محمد نسيم قبل خطبتهما، رغم أنهما كانا في نفس النادي الرياضي، حيث كان محمد رياضيًا بارعًا في الملاكمة والهوكي بالنادي الأهلي، لكنها لم تلتقِ به إلا في بيت عمه، حين جاء أهله يطلبون يدها في زواج عائلي تقليدي، لم يكن فيه الحب الرومانسي المشتعل الذي نقرأ عنه في القصص، بل كان ارتباطًا بين عائلتين، قاده النصيب ليصبح رابطًا أبديًا لم تندم عليه أبدًا، رغم كل الصعوبات.
تمت الخطبة سريعًا، وبعدها الزواج، ليبدأ فصل جديد في حياتها، حيث أصبح زوجها ضابطًا في سلاح المدرعات برتبة ملازم أول، شابًا طموحًا ومتفانيًا في عمله، لم يكن لديها آنذاك أي فكرة عن المستقبل العاصف الذي ينتظرهما معًا.
لم يمر وقت طويل على زواجهما حتى استقبلت مولودها الأول، هشام، ولكن في اللحظة نفسها كانت الأوضاع في مصر تتغير، فقد تم إلغاء معاهدة 1936، واستعادت مصر السيطرة الكاملة على معسكرات قناة السويس، وبحكم عمله، كان على محمد نسيم أن يسافر ليقيم في أحد هذه المعسكرات القريبة من السويس، وهنا لم يكن أمام شريفة سوى خيار واحد،أن تحزم أمتعتها وتأخذ رضيعها وتلحق بزوجها إلى هناك.
لم تكن الحياة في المعسكر سهلة، بل كانت قاسية وبسيطة إلى أبعد الحدود، بيوت بدائية، إمدادات محدودة، ومخاطر لا تتوقف، لكن شريفة لم تتذمر، وكانت تعلم أن هذا قدرها، أن تكون بجانب زوجها، أيا كانت الظروف.
ثم جاء العدوان الثلاثي عام 1956 ليقلب حياتها رأسًا على عقب، وفي لحظة، أصبحت الحرب تحاصرها، وأُجبرت كل العائلات التي كانت تعيش مع الضباط في المعسكرات على العودة إلى القاهرة فورًا، لكن شريفة لم تكن لتتمكن من المغادرة بسهولة، لولا أن القدر أرسل لها والدها، الذي تصادف أن جاء لزيارتها في المولد النبوي، وأخذها في سيارته، وحمل معها ابنها الصغير، وعاد بها إلى القاهرة، تاركًا محمد نسيم ليواجه المصير في ساحة القتال.
مر الوقت بطيئًا وثقيلًا، وشريفة لا تعرف شيئًا عن زوجها، حتى عاد إليها ذات يوم، لكن الرجل الذي فتح باب المنزل لم يكن زوجها كما عرفته، وكان يرتدي زي الميدان، لحيته طويلة، وعيناه تحملان نظرة مختلفة تمامًا، كأنهما رأت أشياءً لا يمكن وصفها، وحتى جسده لم يكن كما تركته، فقد أصابته شظية في قدمه، لكنه لم يبالِ بها كثيرًا، كأنها مجرد تفصيل هامشي في قصة أكبر بكثير.
لم يمر وقت طويل حتى جاء الخبر الذي غيّر حياتهما إلى الأبد، وجاء محمد نسيم ليخبرها أنه تم اختياره للعمل في المخابرات العامة المصرية، ولم تكن تعرف ماذا يعني ذلك بالضبط، لكنها أدركت بسرعة أن حياتها السابقة قد انتهت، وأنها دخلت عالمًا جديدًا لم تكن مهيأة له.
أن تكون زوجة رجل مخابرات لم يكن أمرًا سهلًا، وكانت الحياة بلا مواعيد، بلا استقرار، بلا خطط يمكن تنفيذها، وكانت كثيرًا ما تستيقظ في الصباح لتجد زوجها قد اختفى، تاركًا خلفه حقيبته الفارغة، وكانت تعرف أنه عليها أن تجهزها له، لكنها لم تكن تجرؤ على سؤاله عن وجهته أو موعد عودته.
أصبح المنزل بالكامل مسؤوليتها، تربية الأولاد، اتخاذ القرارات، وحتى التعامل مع الأزمات وحدها، ولم يكن هناك مجال للشكوى، فكلما فكرت أن تتذمر تذكرت أنها اختارت هذا الطريق، أو بالأحرى، أن هذا الطريق اختارها.
لم تكن تعرف شيئًا عن بطولات زوجها حتى جاءها الكاتب صالح مرسي، مؤلف مسلسل رأفت الهجان، وسألها عنه، وحينها فقط بدأت تكتشف الحقيقة، الحقيقة التي عاش ومات وهو يخفيها عنها، ولم يكن مجرد ضابط، ولا حتى مجرد رجل مخابرات،وكان أسطورة، ولكنه كان أسطورة صامتة، لم يترك لها سوى الذكريات، وكلمات مقتضبة، وصورة لرجل عاش حياته كلها في الخفاء، لكي يضمن لها ولأولاده وطنًا آمنًا.
واليوم وبعد سنوات من رحيله، لا تزال شريفة تروي حكايته، شاهدة على زمن كانت فيه البطولة تُصنع في الخفاء، وتُحكى فقط بعد أن يغيب أبطالها عن المشهد.