طلقة حبر..

عادل حمودة يكتب: لعبة الأمم فى الصومال.. آبى أحمد من رجل دولة إلى مهرج فى البلاط

مقالات الرأي

عادل حمودة
عادل حمودة

لو أن هناك شهادة «تقديرية» فى الكذب لنالها عن جدارة «بنيامين نتنياهو» من أول تصويت.

يكذب كما يتنفس ويكذب حتى يتوهم أنه خدعنا.

ولو منحت هذه الجائزة لدولة لفازت بها «إثيوبيا» بجدارة.

إن الكذب فى بلاد «الحبشة» ثقافة سياسية مزمنة ودبلوماسية حكومية دائمة.

لكنها تطلق الكذبة وتصدقها ثم تبنى عليها خططها التنموية والعسكرية والتوسعية.

اعترفت «أديس أبابا» بدولة انفصالية غير شرعية انشقت فى شمال الصومال الذى كانت تحتله بريطانيا يوم ١٨ مايو ١٩٩١وأطلقت على نفسها اسم «أرض الصومال» أو«صوماليلاند».

تقع «صوماليلاند» على خليج «عدن» مما أغرى رئيس الحكومة الإثيوبية «آبى أحمد» بتوقيع اتفاق نوايا أو مذكرة تفاهم مع زعيمها «موسى بيهى عبدى» فى أول يناير ٢٠٢٤ لتأجير ممر استراتيجى على البحر الأحمر بطول ٢٠ كيلومترًا وميناء تجارى وقاعد بحرية لمدة خمسين سنة وبناء قاعدة بحرية مقابل حصة فى الخطوط الجوية الإثيوبية.

تعتبر «إثيوبيا» دولة جبيسة لا تطل على بحر أو محيط مثلها مثل ١٧ دولة أخرى وكانت تستخدم ميناءى «عصب» و«مصوع» فى إرتيريا المجاورة لها فى تصدير واستيراد بضائعها.

لكنها وجدت فى الدولة العشوائية التى تعيش على تصدير الجمال فرصة لمزيد من التوسع والسيطرة على أرض الصومال الذى تحتل ما يقرب من ثلث مساحته.

بالقطع ليس سهلا تنفيذ اتفاق النوايا أو مذكرة تفاهم بين دولتين منهما دولة لا تعترف بها الأمم المتحدة أو الاتحاد الإفريقى الذى لا تحترم إثيوبيا وجود مقره الدائم فى عاصمتها «أديس أبابا».

إنها كذبة إثيوبية اخترعتها حكومتها وصدقتها وبنت عليها أحلاما توسعية فى منطقة متوترة زادت من عدم استقرارها.

ولم تنس أن توحى للعالم بأنها ستختنق داخل حدودها إذا لم تنفذ مذكرة التفاهم وعلى القانون الدولى أن يتسامح معها هذه المرة أيضا.

كذبة لتغطية أنيابها التى تريد غرزها فى مزيد من لحم الصومال الذى أفقرته فى حرب شنها ضدها ليتحرر منها.

استمرت هذه الحرب من صيف ١٩٧٧ إلى شتاء ١٩٧٨ وكادت «جبهة تحرير الصومال» تنتصر فيها لولا المساعدات السوفيتية والكوبية التى أرسلت إلى حكومة «مانجستو هيلا مريام» الشيوعية.

لكن بقيت المناطق الريفية مستقلة تسيطر عليها الجبهة وهناك التقيت بقائدها الجنرال «محمد فرح عيديد» وأجريت معه حوارا نقلته الوكالات الأجنبية التى لم تستطع الوصول إليه وسهل مهمتى زوج ابنه «سياد برى» الذى كان رئيسا للبلاد لتكون أول مغامرة صحفية أقبلها دون الشعور بخطورتها ربما بسبب تهور الشباب وربما بسبب جنون التميز مهنيا.

فيما بعد حلق الجنرال النحيف لحيته وكف عن مضغ القات الذى كان يضعه إلى جانبه وارتدى ملابس مدنية وأصبح رئيسا للصومال فى عام ١٩٩٥ ولكنه دخل فى اشتباكات قبلية دامية انتهت بمقتله بطلق نارى فى ٢٤ يوليو ١٩٩٦.

لكن مقتله لم يوحد الصومال وإنما ضاعف من تمزقه.

إن الصومال دولة عربية عريقة يملك أطول حدود بحرية على خليج عدن والمحيط الهندى ويقع فى منطقة القرن الإفريقى الذى يعتبر من دوائر الأمن القومى المصرى.

انتبه إلى هذه الحقيقة «محمد على» باشا مبكرا فأرسل ابنه «إبراهيم باشا» للسيطرة عليه ولم تكن صدفة أن اسم «إبراهيم» هو الأكثر شيوعا فى منطقة الصومال الغربى خاصة فى المناطق الريفية.

وعندما زرت مدينة «بربرة» عرفت أن سحارة المياه التى لا تزال تشرب منها بنتها مصر فى زمن «محمد على».

فى زمن التوسعات الاستعمارية وزعت أرض الصومال على ثلاث دول أوروبية.

استولت فرنسا على «جيبوتى» أصبحت فيما بعد دولة مستقلة أعلنت فى ٢٣ يونيو ١٩٧٧ بعد استقلالها وانضمت إلى جامعة الدول العربية والاتحاد الإفريقى.

واستولت بريطانيا على المنطقة التى أصبحت فيما بعد «صوماليلاند».

واستولت إيطاليا على مساحة أخرى أصبحت فيما بعد المنطقة التى تحكمها الدولة الشرعية الحالية وتديرها حكومتها من العاصمة «مقديشيو».

وتضع «كينيا» يدها على مساحة من أرض الصومال ترفض التفريط فيها.

وتكاد تصل المساحة التى تحتلها إثيوبيا إلى ثلث البلاد.

لكن أخطر من هذه التقسيمات سيطرة التنظيمات الإرهابية على مناطق متفرقة من الصومال.

يتستر تنظيم القاعدة عقائديا وراء «حركة الشباب الإسلامية» أو «حركة شباب المجاهدين» وهى حركة قتالية نشطة وتجد دعما خارجيا رغم اتهامها بالإهاب من دول متعددة فى العالم مثل الولايات المتحدة والنرويج والسويد.

تكونت الحركة عام ٢٠٠٤ ويرأسها «أبو عبيدة الصومالى» و«مختار على الزبير» ويقدر عدد أعضائها بنحو سبعة آلاف مقاتل شارك بعضهم فى أعمال القرصنة قبالة السواحل الصومالية لجلب المال اللازم لشراء السلاح وتدبير المعيشة كما أنها أدخلت إلى البلاد العمليات الانتحارية وراح ضحيتها وزراء اتهموا بالتعاون مع الغرب الموصوف بالكفر.

وفى أكتوبر ٢٠١٥ ظهرت أنشطة تنظيم «الدولة الإسلامية» المعروف اختصارًا باسم «داعش» فى مناطق جبلية من المنطقة التى يطلق عليها «بلاد بونت».

يرأس التنظيم «أبو حفص الهاشمى القرشى» الذى ساهم هو أيضا فى عمليات القرصنة لجنى المال بدعوى محاربة الكفار.

فى كل مائة كيلومتر مربع فى الصومال يمكن أن توجد قوة مسلحة تنقسم على نفسها إذا لم تجد أحدًا تواجهه ولتأمن بعض الدول شرها تدفع لها ولخصومها.

وأمام هذه التحديات الصعبة والمعقدة استنجدت الدولة الصومالية الشرعية بمصر.

فى صباح يوم الأربعاء ١٤ أغسطس ٢٠٢٤ استقبل الرئيس «عبد الفتاح السيسى» نظيره الصومالى الرئيس «حسن شيخ محمود».

لم يكن الرئيسان فى حاجة إلى تأكيد متانة العلاقات بين البلدين.

لن نرجع بعيدا إلى عمق التاريخ ونتحدث عن ما كان بينهما فى زمن الفراعنة بالتحديد الملكة «حتشبسوت» فالقصة توارثها تلاميذ المدارس هنا وهناك.

لكننا سنكتفى بالتاريخ الحديث حين اختارت مصر السفير «محمد كمال صلاح الدين» عام ١٩٥٤ ليكون ممثلها فى المجلس الاستشارى لهيئة الوصاية الثلاثية على الصومال.

شكلت هيئة الوصاية الأمم المتحدة عام ١٩٥٠ من مصر والفلبين وكوبا لمدة عشر سنوات تنتهى فى عام ١٩٦٠ وحينها تحكم الصومال نفسها بنفسها.

عين السفير قنصلا عاما لمصر فى مقديشيو ليسعى جاهدا إلى تحقيق استقلال الصومال قبل نهاية مدة الوصاية وفى الوقت نفسه دعم انتشار اللغة العربية والثقافة الإسلامية ونجح فى الحصول على قروض من البنك الدولى لتشجيع الصناعات المحلية الصغيرة واستدعى خبيرا فى زراعة القطن من الدلتا.

وأقنع مصر بسهولة بتمويل تشييد مدرسة ثانوية وعيادة طبية ودار سينما وأرسلت بعثة معلمين مدنية ودينية مكونة من ١٩ مدرسا و٧ علماء فى الدين.

لكن المكافأة التى تلقاها كانت مذهلة.

فى يوم ١٦ إبريل ١٩٥٧ كان الرجل متجها إلى مكتبه وما إن وصل المبنى فى الساعة الواحدة ظهرا حتى هاجمه شاب صومالى وطعنه بخنجر مسموم سبع طعنات وفى الطعنة الثامنة ترك القاتل الخنجر فى ظهره بعد أن تجمع المارة فى حديقة القنصلية ولكن السفير تمكن من انتزاعه إلا أنه ما إن وصل إلى المستشفى حتى فاضت روحه ليسجل أنه أول دبلوماسى يقتل فى الخارج.

فيما بعد أطلقت مصر اسمه على النفق المار تحت كوبرى قصر النيل.

حسب ما كتب «أحمد بهاء الدين» فإن «كمال صلاح الدين» بعث إلى زوجته برسالة كشف فيها «أن هؤلاء الفقراء الذين يأكلون من صيد الغابات يتقدمون فى فهمهم السياسى والقومى بشكل عجيب».

لكن المفاجأة أن القاتل «محمد عبد الرحمن» الذى لم يتجاوز الثلاثين من عمره درس فى الأزهر، جندته إيطاليا لتوقف مد تحرر الصومال منها.

استقل الصومال فى أول يوليو ١٩٦٠.

بدأ الاستقلال بتحرر الصومال الإيطالى الذى توحد مع الصومال البريطانى.

فى الوقت نفسه بدأت لعبة الأمم تفرض نفسها على الدولة المثيرة سياسيا واستراتيجيا.

بدأ الصراع عليها بين واشنطن وموسكو حسب قواعد الحرب الباردة بينهما.

نجحت موسكو فى تحريض العقيد «سياد برى» على اعتلاء السلطة بانقلاب عسكرى قام به فى عام ١٩٦٩ بعد اغتيال الرئيس الثانى للبلاد «عبد الرشيد على شارماركى».

لكن الصراع مع إثيوبيا الشيوعية جعله ينقلب على الاتحاد السوفيتى ويتجه إلى الولايات المتحدة.

حدث ذلك بعد سنوات من تأسيس «نادى السفارى» الذى تكون من دول عربية وأوروبية لمحاربة الشيوعية فى إفريقيا.

تسبب ذلك التنظيم فى أولى موجات العداء بين القاهرة وأديس أبابا بعد مساندته للصومال فى حرب الأوجادين.

لم تتوقف لعبة الأمم فى الصومال عند هذا الحد بل امتدت من الحروب الإقليمية إلى الحروب الأهلية ومن التدخلات المباشرة للقوى الكبرى إلى استخدام التنظيمات الإرهابية فى العبث بالوكالة بأمن القرن الإفريقى الممتد التأثير من البحر الأحمر إلى الخليج.

أصبحت الخريطة العسكرية للصومال متعددة التنظيمات والكيانات والمؤامرات.

مشكلة شديدة التعقيد نظرت إليها مصر من بعيد فى قلق مكتوم لتأثيرها على أمنها القومى ولكنها لم تفكر فى التدخل تنفيذا لسياستها الخارجية الراقية التى تحترم القانون الدولى وتستمد خطواتها من ميثاق الأمم المتجدة.

لكن طبقا لهذه القواعد استجابت لدعوة من الحكومة الشرعية فى الصومال لتغيير المعادلة.

طلبت حكومة «مقديشيو» الشرعية فى «الصومال» من الاتحاد الإفريقى مشاركة مصرية فى القوات الدولية متعددة الجنسية لحفظ السلام فى دولة مزقتها الصراعات الاستعمارية مرة ومزقتها الحروب الإقليمية مرة ومزقتها التنظيمات الإرهابية أكثر من مرة.

لن يبدأ عمل هذه القوات التى يطلق عليها اختصارا «اتمس» أو «صوم» قبل اليوم الأول من العام القادم.

لكن خيال حكومة «أديس أبابا» الخصب تعمد أن يصور هذه القوات على أنها ستأتى لشن الحرب عليها وسرح خيالها بعيدا عند تحديد عدد القوات بأرقام وهمية.

كذبت الكذبة وبنت عليها.

كذبت الكذبة وكبرتها وضخمتها وسمنتها لتستفيد منها.

صدرت حالة من الوهم لترد عليها بمنع خروج المياه من سد الأزمة لاكتمال بنائه.

إنه السد الذى بنته بأكاذيب أخرى تفننت فيها واحدة بعد أخرى طوال سنوات مضت دون أن تشعر بعار ما يصيب الدول فى حالتها فلا ترفع رأسها خجلا.

جاء إلى القاهرة بنفسه الرئيس الصومالى «حسن شيخ محمود» طالبا توقيع بروتوكول للتعاون العسكرى بين البلدين حسب ما يقضى به ميثاق جامعة الدول العربية.

من المؤكد أن مصر مستفيدة من تقوية السلطة الشرعية فى الصومال حتى تحد من تنظيمات الإرهاب والقرصنة التى أثرت على أمن البحر الأحمر وأدت إلى تراجع عائدات القناة بمئات الملايين من الدولارات.

أيضا فإن استقرار الصومال يؤثر فى استقرار القرن الإفريقى الذى يعد إحدى دوائر الأمن القومى المصرى.

لكن ذلك لا يعنى أن مصر ستذهب إلى الصومال لتحارب إثيوبيا.

على أنها لعنة الكذب التى تتلبس إثيوبيا.

لست متحدثا باسم مصر لكننى أتابعها وهى تفكر وهى تتخذ القرار وهى تلتزم بالقواعد الأخلاقية ولذلك يمكن القول إنها تحسب خطواتها بدقة وصمت وصبر وطول نفس حتى مع «آبى أحمد» الذى خلع ثياب رجل الدولة وارتدى ثياب مهرج البلاط.


اعترف بدولة عشوائية مقابل ميناء وقاعدة بحرية لن يحصل عليهما  الدولة الشرعية فى الصومال استنجدت بمصر فأطلقت إثيوبيا ماكينة الأكاذيب

 

عادل حمودة يحاور عيديد قبل أن يصبح رئيسًا للصومال لسنوات طوال

محمد كمال صلاح الدين


أول شهيد دبلوماسى سقط وهو يتعجل باستقلال الصومال

آبى أحمد