أحمد عبد الوهاب يكتب: هل نتعلّم للاختبار.. أم للحياة؟
ماذا لو أخبرتك أن مئات، بل آلاف الصفحات التي مرّت عليك خلال رحلتك التعليمية، قد لا يكون لها أثر حقيقي في حياتك العملية، ولا في نهضة مجتمعك؟
قبل نحو عشرين عامًا، درستُ مادة تاريخ اللغة الألمانية مع محاضر ألماني صارم. كتاب ضخم، مادة ثقيلة، ولغة تتجاوز مستوى كثير من الطلاب. بدا للكثير آنذاك أن النجاح في ظل هذه المعطيات لن يتحقق إلا بالحفظ.
لكن يوم الامتحان جاءت المفاجأة: سؤال جوهري، بسيط في صياغته، عميق في مضمونه. إجابة تمتد عبر ثلاثة فصول وقرابة مائة صفحة. وقبل أن نبدأ، مرّ المحاضر بيننا وقال جملة قلبت كل التوقعات:
«من يكتب أكثر من صفحة واحدة، فهو يسير في الاتجاه الخاطئ.»
في تلك اللحظة أدركنا أن الحفظ وحده لا يكفي. الفهم، والتحليل، وربط الأفكار، والتفكير الناقد هي ما يصنع الفارق. قلة قليلة نجحت بتفوّق، بينما نجح معظم الطلاب بالكاد، أو أخفقوا. كانت الرسالة واضحة: الفهم يسبق الحفظ، وأن التعلّم الحقيقي يُقاس بقدرتنا على استخلاص المعنى وجعل المعرفة قابلة للتطبيق خارج قاعة الامتحان.
حتى في الإطار الديني، لا يدعو القرآن الكريم إلى الحفظ المجرد للنصوص — رغم ما للحفظ من فوائد على بعض المستويات — بل يركّز على الفهم، وتدبر الآيات، والعمل بها، كما في قوله تعالى:
﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾ سورة ص - الآية 29
سوق العمل بين الاختبارات والمهارات:
في عالم سريع التحوّل، لم يعد التعليم مرتبطًا فقط بشهادة أكاديمية أو مرحلة زمنية، بل بقدرة مستمرة على اكتساب المهارات، والتعلّم، والتكيّف. ومع هذا التحوّل، أصبح التعلّم مدى الحياة ضرورة لا غنى عنها.
صحيح أن الشهادة الأكاديمية لا تزال مهمة في سوق العمل، لكنها لم تعد الفيصل. ما يحسم القبول والاستمرار هو القيمة التي يقدّمها الفرد، وما يمتلكه من مهارات؛ كالتفكير والتحليل، وحل المشكلات، واتخاذ القرار، والقدرة على التكيّف، إلى جانب المهارات الإنسانية والمهارات الناعمة التي أصبحت جزءًا أساسيًا من أي بيئة عمل.
هذا التوجّه لم يأتِ من فراغ؛ فقد أعادت دول مثل فنلندا واليابان وألمانيا، منذ وقت مبكر، النظر في فلسفة التعليم، وركّزت على الفهم والتطبيق وتنمية المهارات. وانتقلت هذه الرؤية، بدرجات متفاوتة، إلى دول عربية كالإمارات وقطر، في دائرة آخذة في الاتساع والتطوير.
في هذه التجارب، كان الطالب محور العملية التعليمية، مدعومًا بثقافة تقييم مختلفة، وسياسات تعليمية تمنح الاختبار دورًا في تحفيز التفكير والتحليل، لا الاكتفاء بالإجابة النموذجية.
في أي مجتمع لا تبدو الفجوة بين التعليم وسوق العمل لغزًا معقّدًا، بقدر ما هي نتيجة طبيعية لمسار تعليمي يركّز على الشهادة الأكاديمية أكثر من تركيزه على جودة المهارات، ويتأثر في الوقت نفسه بتوقعات اجتماعية راسخة ترى في مسارات بعينها — كالطب والهندسة — الطريق الأكثر أمانًا للنجاح، أحيانًا على حساب ميول الأبناء، أو على حساب تخصصات يفرضها الواقع المحلي والعالمي.
التعليم، في جوهره، لا ينبغي أن يكون سباقًا نحو اجتياز الامتحان أو وسيلة لتحقيق وجاهة اجتماعية فحسب، بل مساحة لبناء إنسان يفهم، ويتعلّم، ويطوّر نفسه، ويعي مسؤوليته تجاه مجتمعه.
أختم بطرح سؤالين كدعوة صادقة للتأمل:
هل نملك الشجاعة لإعادة التفكير في معنى النجاح في التعليم ؟
وهل ما نتعلّمه اليوم يبني مهارات تفيد حياتنا فعلًا… أم يقتصر فقط على الاختبار القادم؟