د.أحمد ماهر أبورحيل يكتب: خطاب الرئيس وإدراك الوعى الصامت

ركن القراء

بوابة الفجر


في السياقات السياسية التي تتسم بالركود أو الحذر الشعبي الذى هو فى الغالب  حال المجتمعات النامية، لا يكون الخطاب السياسي موجهاً دائماً إلى الجماهير الصاخبة أو النخب المتفاعلة، بل كثيراً مايكون موجهاً  ومستهدفاً أصحاب الوعي الصامت الذى هو  ذلك القطاع الواسع من المواطنين الذي يراقب ويقيّم دون إعلان موقف، حيث إنه في لحظات الاضطراب السياسي وتبدّل موازين القوة، يبرز مفهوم الوعي الصامت كأحد أكثر العوامل تأثيراً في تشكيل اتجاهات المجتمع وتحديد رغبات أبنائه، رغم أنه لا يظهر في الخطاب العام ولا في الساحات التقليدية للمشاركة السياسية، حيث  إنّه ذلك الوعي الكامن لدى المواطنين المتشكّل من خبرات معيشية وتراكمات متتالية وإدراكات يومية، بعيداً عن الضجيج الإعلامي أو الاستقطاب السياسي المباشر.
حيث أن الوعي الصامت هو حالة من الإدراك الجمعي غير المعلن، ليس بالضرورة معارضاً أو مؤيداً، لكنه حالة تقييم داخلية يقوم بها الأفراد تجاه المشهد السياسي، ثم يترجمونها في اللحظة المناسبة عبر سلوك سياسي أو اجتماعي، هذا السلوك قد يفاجئ النخب والمؤسسات والدولة عموما بتأثيره.
حيث يتسم أصحاب الوعى الصامت بأنهم  لا  ينخرطوا في معارضة صريحة ولا في تأييد حماسي واضح، كما يمثلوا الكتلة الحرجة التي تحسم الاستقرار أو الارتباك، كما إنهم يتأثروا بالرسائل غير المباشرة أكثر من الشعارات الرنانة، ومن هنا يصبح إدراكهم أكثر أهمية من إدراك الشارع المتفاعل، لأن مواقفهم تظهر فجأة في لحظات مفصلية كالأزمات، أو التحولات الاقتصادية الكبرى، أو الاستحقاقات السياسية المختلفة كالانتخابات أو الاستفتاءات.
وفي هذا الإطار يمكن قراءة خطابات الرئيس عبد الفتاح السيسي بوصفها محاولات متكررة لإدراك هذا الوعي الصامت  أكثر من كونها مجرد رسائل تعبئة مباشرة، حيث إنه عند تحليل خطاب الرئيس السيسي فنجد إنه غالباً ما يتجاوز اللغة السياسية التقليدية، ويتسم بـالحديث المباشر دون وسطاء حزبيين أو أيديولوجيين؛ كما يتم التركيز فيه  على مفردات مثل: الدولة، الصبر، التحدي، المسؤولية، الخطر، البناء، بالإضافة الى استدعاء الذاكرة الجمعية المرتبطة بالفوضى أو الإنهيار المحتمل، هذا النوع من الخطاب لا يستهدف الإقناع اللحظي بل إعادة تشكيل الإطار الذهني الذي يفكر من خلاله المواطنين أصحاب الوعى الصامت.
وهذا اتضح جلياً فى البوست الذى كتبه الرئيس السيسى على صفحته الشخصية، الذى وجه فيه الهيئة الوطنية المشرفة على ادارة العملية الانتخابية الخاصة بانتخابات مجلس النواب المصرى 2025م/ 2030م؛ إلى تصحيح المسار والإنصياع إلى رأى الشارع، وضبط المشهد الانتخابى وتطبيق قواعد القانون على الجميع ، ووقوف مؤسسات الدولة على مسافة واحدة من جميع المرشحين وجميع الأحزاب، بالإضافة الى رسائل الرئيس لطلبة كليات الشرطة الذى دعى فيه المواطنين إلى حسن اختيار من يمثلهم  والوقوف ضد الرشوة السياسية وشراء الأصوات؛ فنائب الشعب هو ضميرها، وهو لسان حال المجتمع؛ فهو الذى يشرع ويراقب لذلك يجب اختياره  بعناية.
  حيث جاءت خطابات الرئيس السيسى الآخيرة  نتيجة لقراءة  متأنية للمشهد السياسى الذى تمر به مصر، ونتيجة تقدير موقف وتحليل دقيق لما يشعر به المواطنين وخاصة أصحاب الوعى الصامت خاصة بعد انتخابات مجلس الشيوخ التى شهدت عزوف كبير؛ حيث تم رصد الكثير من المخالفات التى شابت العملية الانتخابية.
وجاءت المخالفات  بداية من اختيار القائمة المسمى بالقائمة الوطنية من أجل مصر وعدم وجود معايير واضحة للاختيار؛ سواء المؤهل العلمى أو الموقع الجغرافى الذى ينوب عنه العضو، أوالخبرة السياسية والعمل العام للنائب ؛ والحقيقة هذه ليست مسئولية الدولة فقط وإنما مسئولية الأحزاب التى أسست وهندست لهذا النظام الانتخابى، كما أن وجود قائمة واحدة ووحيدة يتم نجاحها بنسبة تتجاوز 5% من اجمالى عدد الأصوات تشبه فى وضعها حالة التعيين؛ وهذا بحد ذاته يتنافى مع فلسفة التمثيل النيابى، وهو ماأدى إلى عزوف نسبة كبيرة عن الإدلاء بأصواتهم والمشاركة فى العملية الانتخابية من الأساس، مروراً  بدفع الأحزاب عدد من المرشحين أصحاب الوجوه الجديدة التى كانت بعيدة كل البعد عن المشهد السياسى والحزبى مقابل التبرع بمبلغ مالى للحزب، حيث أصبح كرسى مجلس النواب سلعة تباع وتشترى دون الحاجة إلى أصوات الجماهير؛ وهذا خطأ جوهرى وقعت فيه معظم الأحزاب إن لم يكن كلها، حيث حولت التمثيل النيابى من أعلى إلى أسفل على عكس الطبيعى أن التمثيل النيابى يجب أن يكون من أسفل إلى أعلى، حيث يجب أن يبدأ من الشارع وليس العكس ، حيث تجاهلت الوعى الصامت .
ومن هنا أدرك الرئيس السيسى  وجود الوعى الصامت لدى الجماهير، حيث  ينعكس الوعي الصامت  وتظهر تأثيراته على المشهد السياسي في سلوك التصويت حيث تتغير الأنماط فجأة دون مؤشرات ظاهرة، و ويؤثر أيضاً على الانسحاب من المشاركة كنوع من الاحتجاج الهادئ، كما يمكن أن يؤدى إلى  تبدّل الثقة في مؤسسات معينة مقابل أخرى، بالإضافة إلى التحول الاجتماعي الصامت  كتغيير الولاءات أو إعادة تقييم الرموز السياسية. هذه التحولات لا تُعلن، لكنها تكشف نفسها في نتائج الانتخابات، أو في نجاح مبادرات معينة، أو في فشل محاولات الحشد رغم الاستعدادات الكبيرة، وذلك على عكس الرئيس مبارك فى انتخابات 2010م التى كانت الشرارة الأولى  لثورة25  يناير، حيث عندما تتجاهل الدولة هذا الوعي، قد تُفاجأ بتغيرات اجتماعية وسياسية عميقة لم تكن محسوبة.
لذلك قام الرئيس السيسى بتوجيهات لإدراك  الوعى الصامت للجماهير بداية من فتح قنوات تعبير آمنة، ثم  إعادة بناء الثقة عبر سياسات حقيقية وليست دعائية، و قراءة المؤشرات الاجتماعية قبل المؤشرات السياسية، بالإضافة إلى الاستثمار في الشفافية وفعالية المؤسسات، وهذا واضح فى أحكام القضاء الإدارى الذى قضى بإلغاء مايقرب من 70% من دوائر المرحلة الأولى، وضبط المخالفات الانتخابية، وزيادة مساحة الرأى والتعبير للمعارضين. 
ولعل  ماحدث فى نتائج الانتخابات قبل وبعد تدخل الرئيس السيسى خير دليل على قوة خطاب الرئيس السيسى فى  إدراك و تحريك الوعى الصامت إلى وعى فاعل بالمشاركة فى عملية التصويت وظهور نتائج جديدة غير محسوبة مسبقاً، حيث كان هناك ناجحين أصبحوا ساقطين والعكس بالعكس، حيث عادت الأمور إلى طبيعتها والإمتثال لرأى الشارع أياً كان رأيه 
أخيرا وليس آخراً الوعي الصامت ليس صمتاً سياسياً بقدر ما هو لغة أخرى للفهم والمقاومة والتقييم، وعندما تتجاهل القوى السياسية هذا الوعي، تصبح التحولات المفاجئة أمراً حتمياً، أما عندما يُفهم ويُحترم، يمكن أن يتحول إلى قوة دافعة نحو استقرار حقيقي قائم على التوافق والوعي وليس على الإكراه أو الدعاية.
حفظ الله مصر.. حفظ الله الوطنيين