د.أحمد ماهر أبورحيل يكتب: هندسة سياسية أم طبخة سياسية
ظهر علينا فى وسائل الإعلام عدد من الكتاب والساسة والمهتمين بالشأن العام ليتحدثوا عن نوع جديد من أنواع الإدارة مرتبط بإدارة الشأن العام والتمثيل الشعبى وهوــــ الهندسة السياسية بديلًا عن الطبخة السياسية ـــــ فى غرفتى التشريع فى مصر سواء فيما يتعلق بمجلس النواب أو مجلس الشيوخ، ولكن هذا الحديث ذاع صيته وانتشر صداه خاصة مع انتخابات النواب لما لها من أهمية خاصة فى التشريع والرقابة والتمثيل الحقيقى للشعب من خلال دوائره الانتخابية التى يسكن ويعيش فيها.
والأسئلة الجوهرية التى نسعى للإجابة عليها فى هذه المقالة:
أولًا: لماذا ارتبط مفهوم الطبخ بالسياسة؟
دائما يتحدث الجميع عما يطهى في مطابخ السياسيين من قرارات أو مؤامرات تتعلق بالبلاد في أي مكان من العالم، حيث أن الطبخ في السياسة يتجاوز حدود الطعام، لأنها تستطيع تصنيف من سيأكل ومن سيبقى جائعًا، كما أن هناك أنواعًا مختلفة من الطعام، فمنه الحلو والمالح والحامض، وهناك طرق مختلفة من الطهى من المقلي إلى المشوي والمدخن، ولكل منه حسناته وسيئاته على صحة البشر؛ وكذلك العديد من السياسات المتبعة في العالم والتي تناسب في كل منها دور الدول في صناعة وتنفيذ القرارات، وكما أن الطعام الصحي على سبيل المثال؛ يعد تحديًا بحد ذاته لمن يتبعه؛ فإن السياسات التي ترعى مصالح الناس وتأخذ بحاجاتهم هي تحدٍّ بحد ذاتها، وقد تكون بعض أنواع الطعام تمثل خطرًا على صحة الإنسان إذا ما تناولها بكثرة: كالسكر والملح، فإن بعض السياسات قد تكون هدامة للمجتمع والدولة، ولكن في كل الأحوال فالأمر دائمًا منوط بالطباخ، عفوًا بالسياسي، وطرق الطبخ، عفوا "صناعة القرار"، التي يفضل استخدامها.
و لنبدأ بالمطبخ التقليدي وهو يشبه في السياسة ما يعرف بالواقعية وهي التي تعتبر أن الدولة وحدودها هي الأساس وتتخذ القرارات الهامة المتعلقة بالسياسة الداخلية أو الخارجية من قبل الدولة المركزية؛ وهذا ما تفعله الأم عادة في مطبخها، حينما ترفض استخدام المأكولات الجديدة أو التعديل على الوصفات التي وصلت إليها من الجدة، ولكن إذا ما كان هناك تدخل حتى في أصل الوصفات التقليدية لتعطيها طعم مختلف فهنا نستطيع فهم معنى الليبرالية السياسية، ولكن إذا ما تغيرت قائمة الطعام نهائيًا وأصبحت متفلتة من أية قوانين قد تضعها الأم في مطبخها وخاضعة لقانون العرض والطلب الذي يفرضه أفراد الأسرة، فإننا حينئذ نتحدث عن الليبرالية الجديدة. ومن هنا يمكن تفسير مفهوم المطبخ السياسى الشائع
التساؤل الثانى : لماذا ارتبط مفهوم السياسة بالهندسة؟
فى القرن التاسع عشر تحدّث البعض عن وظيفة «المهندس الاجتماعى»فإذا كان «المهندسون» يتعاملون مع مشاكل المادة.. فإن «المهندسين الاجتماعيين» يتعاملون مع مشاكل الإنسان.
وفى القرن العشرين، تردّد مصطلح «الهندسة الاجتماعية»وهى برأى البعض تهدِف إلى التأثير على موقف الشعب وسلوك المجتمع. وقد طوّر البعض المصطلح ليذهب إلى خطط اختراق العقول البشرية وتوجيهها حيث لا يكفى اختراق الأجهزة دون اختراق العقول.
وفى أثناء تشكيل ما سُمّى بـ«النظام العالمى الجديد» عقب انهيار الاتحاد السوفيتى ونهاية الحرب الباردة، تحدّث البعض عن «الهندسة السياسية» ثم تحدّث آخرون عن «الهندسة الديمقراطية».
ومفهوم الهندسة السياسية ظهر في بدايته عام 1994 ليعبر عن طموح غربي لبناء تصور سياسي موحد قوامه حقوق الانسان، وبروز أنموذج سياسي واحد متوافق بين المشاركة الديمقراطية والحكم الرشيد ودولة القانون، وجعل الانسان النقطة المحورية التي تؤسس انظمة سياسية هادفة لتحقيق حاجات الانسان بما يتوافق مع منظور حقوق الانسان العالمية.
وتقتضي الهندسة السياسية خلق هندسة انتخابية عبر ايجاد نظام انتخابي يناسب طبيعة التركيبة المجتمعية السائدة، ويراعي القواعد المتعلقة بنظم الحكم وقواعد الوصول إلى السلطة ومداخلها.
وتتطلب الهندسة الفاعلة للنظم الانتخابية وجود مؤسسات مستديمة وعادلة ومستقلة، يتوافر لها شرعية تنفيذ القوانين وضمان النزاهة والشفافية في علاقاتها مع الاحزاب السياسية والمواطنين؛ فالهندسة الانتخابية هي ترتيب ارادي واع للنظام الانتخابي بما يتناسب ويستجيب للبيئة العامة المحيطة، ويؤدي إلى انتاج مخرجات واضحة ومحددة من أجل المساهمة في تكوين بناء مؤسسي وسياسي جيد وكفء، ومن ثم فالهندسة الانتخابية محاولة من اجل اصلاح وتحسين النظام الانتخابي؛ الأمر الذي ينعكس بشكل إيجابي على أداء البرلمان ومن ثم المساهمة في عملية بناء الدولة والنظام السياسي الفاعل وتهدف إلى توجيه عملية التنمية
إذن الهندسة السياسية ببساطة.. هى عِلم النهضة، أو عِلم التقدم، أو علم الاصلاح لان الهندسة تعنى التعامل المنظم مع الواقع لاصلاحه سواء بالتعديل أو التغيير، والسياسة تتعلق بالشأن العام فى ضوء الدستور والقانون إذن هى اصلاح فى اطار الدستور والقانون بالمعنى الأدق.
التساؤل الثالث : هل مايحدث فى العملية السياسية التى نشهدها هو هندسة سياسية أم طبخة سياسية؟
والحقيقة هو سؤال للتقويم أو بالضبط سؤال للتقييم السياسى لأننا ليس لدينا سلطة الاصلاح أو التعديل؛ كماإنه لاتوجد إجابة حيادية مطلقة، ولكن يمكن تقديم طرح يمكن قبوله.
حيث تعد الطبخة السياسية والهندسة السياسية مصطلحين يُستخدمان في وصف عمليات صنع القرار وإدارة الشأن العام، غير أن بينهما اختلافًا جوهريًا في الطابع والهدف والأسلوب.
فالطبخة السياسية تُشير عادة إلى ترتيبات أو تفاهمات تُدار في الخفاء بين أطراف سياسية بغية تحقيق مصالح خاصة أو تمرير قرارات معينة بعيدًا عن الأطر المؤسسية والشفافية، وغالبًا ما يُنظر إليها في الخطاب السياسي والإعلامي على أنها نتاج لمساومات ومقايضات غير معلنة تُضعف الثقة بين المواطنين ومؤسسات الدولة.
أما الهندسة السياسية كما سبق هي مفهوم أكثر علمية ومؤسساتية، يقوم على تخطيط مدروس لإعادة تشكيل النظام السياسي أو تطويره بما يضمن التوازن بين السلطات، وتحسين آليات المشاركة السياسية، وتحقيق الاستقرار، وهي تُستخدم في سياقات الإصلاح الدستوري أو تصميم الأنظمة الانتخابية، حيث تتداخل فيها الاعتبارات القانونية والاجتماعية والإدارية.
وعليه، يمكن القول إن الطبخة السياسية تعبر عن نهج براغماتي آنٍ يخدم مصالح محددة، بينما تمثل الهندسة السياسية نهجًا استراتيجيًا منظمًا يهدف إلى بناء نظام سياسي أكثر كفاءة وعدالة واستدامة.
أما من ناحية مايحدث فى العملية السياسية هى هندسة سياسية
فإذا عدنا لتعريفات “الهندسة السياسية” كما ناقشناها — أي تخطيط مدروس لإصلاح النظام أو إعادة ترتيبه لضمان مشاركة أفضل، شفافية، مؤسسات أقوى — فهناك بعض مؤشرات في مصر تشير إلى ما يمكن اعتباره خطوات نحو هذا النوع من التغيير:
يمكن الاشارة ألى أن هناك “حوارًا وطنيًا” دعا إلى الرئيس عبد الفتاح السيسي في صيف 2022 تضمن مناقشات حول قوانين الانتخابات، حرية التعبير، وهو ما وصفه بعض المراقبين بأنه «محاولة هندسة سياسية تدريجية»، بالإضافة إلى أن هناك إصلاحات اقتصادية كبيرة وإعادة ترتيب لدور الدولة في الاقتصاد، والذي يمكن أن يُنظر إليه من زاوية أن الدولة تحاول إعادة هندسة العلاقات بين الدولة، السوق، والمجتمع.
أما من ناحية مايحدث فى العملية السياسية هى طبخة سياسية
هناك مؤشرات قوية أيضًا على أن ما يحدث يتضمن كثيرًا من “الطبخة السياسية” بمعنى تحالفات خلف الكواليس، ترتيبات غير شفافة، دور سياسي محدود للمجتمع المدني والمعارضة، حيث هناك وجهة نظر تحليلية صادرة عن" مؤسسة كارنيغى" تقول إن هناك نموذجًا يُعرف بأنه “اقتصاد سياسي هيمنة” حيث تُدار الموارد والعلاقات عبر شبكات ولاءات أكثر منها عبر مؤسسات مستقلة، كما أن في الانتخابات والبرلمان، وُجد أن هناك تفاوتات في المشاركة، ونقد بأن بعض القوائم الحزبية تكون مدعومة من الدولة بطريقة غير شفافة، مما يُشبه “هندسة” البرلمان من الأعلى وليس مشاركة شعبية مؤسسية حقيقية، بالإضافة إلى حالة ضعف الثقة بالمؤسسات السياسية من قِبل المواطنين، وارتفاع التصور بأن الدولة تعمل كضامن للنظام أكثر من كونها مؤسسة مشاركة فعلًا.
وبناءً على ما سبق، يمكن القول والإشارة إلى أن أى عملية سياسية هى مزيج بين الإثنين وليس أحدهما فقط؛ فهناك جانب هندسي: تغييرات رسمية، حوارات، إصلاحات معلنة، مؤسسات تُعاد تنظيمها، وهناك جانب “طبخة”: ترتيبات السلطة، شبكات نفوذ، تحكّم مركزي، مشاركة شعبية محدودة، شفافية أقل مما يُعتَبَر.
وتتوقف مدى جودة العلمية السياسية على مدى نسبة الهندسة إلى الطبخة
حفظ الله مصر.. حفظ الله الارض والشعب والدولة