الوفاء.. حين ألغت مصر الفرح احترامًا لدماء السودان
في مساءٍ هادئ من أمسيات الخرطوم، جلس الكاتب السوداني عبدالله محمد علي بلال يتأمل بطاقة أنيقة وصلته من سفارة جمهورية مصر العربية؛ وكانت دعوة لحضور حفل افتتاح المتحف المصري بفندق مارينا في الأول من نوفمبر، حدث ثقافي كبير انتظره كثيرون بوصفه إنجازًا فريدًا في مسار العلاقات الثقافية بين البلدين.
لكن بعد أيام قليلة، وصل ظرف آخر يحمل الختم نفسه.. غير أن الرسالة هذه المرة لم تكن دعوة، بل اعتذارًا مؤثرًا.
اعتذار دبلوماسي يخبره بأن الحفل قد أُلغي تضامنًا مع الشعب السوداني في أحزانه بعد مأساة الفاشر، حيث استباحت مليشيا آل دقلو المدينة، فقتلت الأطفال والنساء والشيوخ وخلّفت وراءها وجعًا لا يوصف.
توقف عبدالله طويلًا أمام تلك الورقة الصغيرة.. لم تكن مجرد إشعار إلغاء، بل صفحة من التاريخ تكتبها مصر بحبر الأخلاق والإنسانية. قال لنفسه:
> “هكذا يفكر الكبار، حين يُقدِّمون الحزن على الاحتفال، والإنسان على الحجر، والدم على المتحف.”
مصر التي اختارت الحزن النبيل
لم يكن الموقف غريبًا على مصر، فالعلاقات بين القاهرة والخرطوم لا تحدها حدود ولا تُقاس بالمسافات.
فالنيل الذي يجري بينهما لا يربط الأرض فقط، بل يوصل القلوب أيضًا.
لقد علّمت مصر العرب والعالم أن الكبرياء لا يكون في الصلابة فقط، بل في الحنو وقت الألم.
كان السفير هاني صلاح في قراره ذاك يتصرف من منطلق الكبار حقًا.
لم يحتج إلى كلمات كثيرة ليُعبّر عن موقفه، فالفعل كان أبلغ من الخطاب.
لقد أعلن برسالته تلك أن الدم السوداني لا يقل قيمة عن الدم المصري، وأن ما يؤلم الخرطوم يوجع القاهرة أيضًا.
وفي الوقت الذي صمت فيه البعض، ظل الإعلام المصري يصف مليشيا آل دقلو باسمها الحقيقي: المليشيا، دون تردد أو تزييف، تأكيدًا على أن مصر ترى الحقيقة كما هي، وتقف مع السودان ومؤسساته الوطنية دون مواربة.
كتب عبدالله في مذكراته:
“تظل مصر هي الكبيرة بين العالم العربي والإسلامي والأفريقي، بحسن قيادة قادتها ودبلوماسييها وشعبها.”
النيل.. دم واحد في مجرى الوفاء
لم يكن يعلم أن تلك البطاقة ستصبح رمزًا لشيء أعمق من حدث ثقافي،
كانت رسالة حب وصداقة ووفاء بين شعبين جمعهما نهر واحد ووجع واحد ومصير واحد.
وفي نهاية القصة، كتب عبدالله بخط يده على حافة الورقة:
> “ربما لا تكفي كلمة شكرًا… فمصر لم تُلغِ حفلًا، بل أعلنت احترامها للحياة، وكرّمت دماءً سالت في الفاشر وكأنها دماء أبنائها.”
وعندما أطلّ على النيل عند الغروب، رأى الماء يحمل لونًا رماديًا خفيفًا يشبه الحزن،
لكنه شعر في داخله أن هذا النيل نفسه الذي يشرب منه المصري والسوداني معًا،
هو الشاهد على أن الوفاء ما زال يجري في عروق الأمم العظيمة.