قلب دارفور النابض.. ماذا تعرف عن جبل مرة؟
يُعد جبل مرة أحد أبرز المعالم الجغرافية والطبيعية في السودان، ليس فقط لجماله البيئي الفريد، بل لما يمثله من قيمة استراتيجية وسياسية واقتصادية وعسكرية جعلته محورًا للتنافس والنزاع في إقليم دارفور خلال العقود الأخيرة.
فهو من جهة محمية طبيعية نادرة، ومن جهة أخرى منطقة نفوذ حساسة تشكل مفتاحًا لفهم الصراع في غرب السودان.
موقع الجبل وطبيعته الجغرافية
يقع جبل مرة في إقليم دارفور، تحديدًا في ولاية وسط دارفور، ويمتد بطول يقارب 240 كيلومترًا وعرض نحو 80 كيلومترًا، بارتفاع يصل إلى 3،088 مترًا فوق مستوى سطح البحر، مما يجعله أعلى قمة في السودان.
يتكون الجبل من سلسلة من القمم البركانية القديمة التي تغطيها الغابات الكثيفة، وتحتوي على بحيرات وشلالات، من أبرزها بحيرة ديربا الشهيرة، التي تشكل معلمًا طبيعيًا نادرًا في بيئة دارفور شبه القاحلة.
ويمتاز مناخ جبل مرة باعتداله على مدار العام، إذ يشبه إلى حد كبير مناخ البحر الأبيض المتوسط، حيث تسود درجات حرارة معتدلة وأمطار غزيرة، ما جعله مصدرًا دائمًا للمياه العذبة في الإقليم.
البيئة والتنوع الحيوي
يحتضن جبل مرة أنواعًا فريدة من النباتات والحيوانات لا توجد في أي منطقة أخرى من السودان.
وتغطيه غابات السافانا الكثيفة، وفيه ينابيع دائمة وشلالات مثل شلال قلول وشلال سوني، التي تشكل موردًا سياحيًا واقتصاديًا مهمًا.
وقد صنفته مؤسسات بيئية دولية ضمن المناطق ذات القيمة البيئية العالمية، كما تُدرسه منظمات مثل اليونسكو لإدراجه ضمن قائمة التراث الطبيعي العالمي.
الأهمية الاقتصادية
يُعتبر جبل مرة شريان الحياة لسكان وسط وغرب دارفور، إذ تعتمد عليه عشرات القرى في الزراعة والرعي وتوفير المياه.
فالمياه العذبة المتدفقة من قممه تشكل الرافد الرئيسي للوديان والأنهار الصغيرة في المنطقة، كما أن تربته الخصبة تجعل منه منطقة زراعية نادرة في قلب الصحراء.
وتنتج غاباته أنواعًا من الأخشاب والثمار الطبيعية، إلى جانب إمكانات مستقبلية لاستكشاف المعادن التي يُعتقد بوجودها في طبقاته البركانية القديمة، ما قد يجعله موردًا اقتصاديًا مهمًا إذا ما استُثمر وفق رؤية تنموية مستدامة.
كما يُنظر إلى جبل مرة باعتباره وجهة واعدة للسياحة البيئية والثقافية، خاصة في حال استقرار الأوضاع الأمنية، إذ يمكن أن يصبح أحد أهم المقاصد الطبيعية في إفريقيا.
الأهمية السياسية
منذ اندلاع النزاع في دارفور مطلع الألفية، ظل جبل مرة يمثل رمزًا للمقاومة ومركزًا للتوازن السياسي.
فهو معقل تاريخي لقبائل الفور، الذين يعتبرونه جزءًا من هويتهم الثقافية والسياسية، كما اتخذته حركات دارفور المسلحة قاعدة طبيعية لحماية نفسها من القصف البري والجوي نظرًا لتضاريسه الوعرة.
السيطرة على جبل مرة كانت دائمًا هدفًا استراتيجيًا للحكومات المتعاقبة، إذ تعني ضبط قلب دارفور والتحكم في طرق الإمداد بين شمال وجنوب الإقليم.
كما أن وجوده في منطقة التماس بين قبائل متعددة جعله عنصرًا حساسًا في أي مفاوضات سياسية أو اتفاقات سلام تخص الإقليم.
الأهمية العسكرية والاستراتيجية
تضاريس جبل مرة الصعبة والمرتفعات الصخرية المحيطة به منحته ميزة دفاعية طبيعية جعلت منه موقعًا مثاليًا لتخزين الإمدادات وتنظيم الهجمات في فترات الحرب.
وقد استخدمته الفصائل المسلحة، وعلى رأسها حركة جيش تحرير السودان بقيادة عبدالواحد محمد نور، كقاعدة عسكرية محصّنة خلال سنوات النزاع.
أما بالنسبة للقوات الحكومية، فكان الجبل يمثل تحديًا مستمرًا في السيطرة الميدانية، إذ يصعب الوصول إلى قممه أو استخدام الدبابات والطيران بفعالية في تضاريسه.
وبالتالي، فإن من يسيطر على جبل مرة يمتلك نقطة تفوق استراتيجية في غرب السودان، قادرة على التأثير في موازين القوة بالمنطقة بأكملها.
البعد الإنساني والاجتماعي
يسكن محيط جبل مرة عشرات القرى التي تعتمد في حياتها اليومية على موارده الطبيعية.
لكن الحروب المتكررة جعلت هذه المجتمعات تواجه نزوحًا قاسيًا وفقدانًا لمقومات الحياة.
ورغم ذلك، لا يزال السكان المحليون يرون في الجبل رمزًا للهوية والانتماء، ومصدرًا للأمل في مستقبل أكثر استقرارًا.
في النهاية يبقى جبل مرة أكثر من مجرد معلم طبيعي؛ فهو مرآة تعكس تداخل الجغرافيا بالسياسة، والاقتصاد بالأمن، والطبيعة بالهوية.
فبين شلالاته وبراكينه ووديانه، تتقاطع مصالح متعددة: من الباحثين عن الجمال، إلى القوى المتصارعة على النفوذ.
ولذلك سيظل جبل مرة — رغم الحروب والتحديات — رمزًا لصمود دارفور وثراء السودان الطبيعي والإنساني.