مؤمن الجندي يكتب: أحمد عز.. بليغ التحليل الرياضي

نعيش الآن في زمن كثرت فيه الأصوات وقل فيه الصدق، ورغم ذلك يظهر أحيانًا شخص يذكرك أن الهدوء قوة، وأن المعرفة لا تحتاج صخبًا لتُسمع.. أتابعه منذ سنوات، بنفس الدهشة الأولى، وكأن كل ظهور له على الشاشة درسٌ جديد في فن التفكير.. في الوقت الذي ينشغل فيه كثيرون بالانتماءات، يسير هو بخطواتٍ ثابتة على طريق مختلف.. طريق المنطق.
هذا الشخص يشبه «النغمة الصافية» وسط ضوضاءٍ لا تنتهي. شخص لا يصرخ، لا يجامل، ولا يبحث عن موطئ قدمٍ بين المعسكرين الأحمر والأبيض، بل يكتفي بأن يضع قدمه على أرض المبدأ.. هذا هو أحمد عز.
أكاد أجزم — وأندر ما أجزم في هذا المجال — أن اتفاق الناس على موهبة شخصٍ في كرة القدم أمر يشبه معجزة.. فحتى الأساطير، يختلف حولهم البعض.. لكن مع عز، الأمر مختلف.. مختلف إلى الحد الذي يجعلك تقول: «ده شغله مظبوط على المسطرة، زي ما الكتاب بيقول».
منذ سنوات، وأنا أتابعه لا كمُحللٍ فني فقط، بل كمفكرٍ رياضيٍ يزرع في عقول الناس قيمة الفهم قبل الحكم، والتحليل قبل الهتاف.. عز لا يبيع الكلام الرنان ولا يستعرض معرفةً محفوظة، بل يفتح أمامك دفاتر العلم كما لو كان أستاذًا في كلية التحليل الفني لكرة القدم، وليست مجرد مدرسة كما يظن البعض.
تراه على الشاشة، في حلقةٍ من تلك الحلقات التي يُحاور فيها إبراهيم فايق، يتحدث عن معادلات تقييم اللاعبين، وعن كيفية احتساب أسعارهم وفق الأرقام والبيانات، بينما يبتسم فايق بدهشة ويقول له: «ده احنا ماعندناش كورة»، ثم يقبّل رأسه قائلًا: «يا متنور يا متعلم».
تلك اللحظة لم تكن مجرد لفتة إعجاب من إعلاميٍ كبير بزميله، بل كانت اعترافًا ضمنيًا بأن الساحة تحتاج إلى أمثال عز.. يحتاجها العقل قبل الشاشة.
كنت قد كتبت من قبل مقالًا بعنوان «لماذا لا نكون جمهورًا لزملائنا؟»، وها أنا أكرر المعنى ذاته اليوم.. نعم، أنا أكتب عن زملائي، وأشجعهم، حتى لو لم تجمعنا علاقة شخصية.. لأن الكلمة أمانة، والأمانة تقتضي أن تُقال الحقيقة حتى لو خالفت هوى الجمهور.
الحقيقة أن أحمد عز اختار الطريق الأصعب.. الطريق الذي لا تُصفق له جماهير الانتماء، ولا تدعمه الجيوش الإلكترونية، لكنه طريق النقاء المهني.. طريق يبدأ من احترام المشاهد، ويمر عبر بوابة المعلومة، وينتهي إلى ضمير صاحبه.
عز لم يركب الموجة، لم يتخذ شعارًا أو لونًا ليحتمي به، بل اختار أن يحتمي بما هو أثمن، بالعلم والأدب والصدق. ولهذا، لا يختلف اثنان على أنه موهبة فريدة، وأنه في زمن تتكاثر فيه الأصوات، يبقى صوته من القلائل الذين يُصغى إليهم لا لأنهم الأعلى، بل لأنهم الأصدق.
تحية لصديقي العزيز، للمبدع الهادئ، للمايسترو الذي يحول كرة القدم إلى موسيقى وتحليلها لعلم وذوق.. حيث يذكرني بالرائع بليغ حمدي موسيقار الإبداع والتجديد! تحية لأحمد عز، الرجل الذي أثبت أن التحليل ليس «رأيًا» يقال، بل فن يُدرس، وأن الأمانة ليست شعارًا، بل طريق حياة.