د. حامد بدر يكتب: من العنف إلى التفاوض.. رواية جديدة لـ "غزة" عبر الأجندة والأطر الإعلامية

مقالات الرأي

بوابة الفجر

بين دويّ القصف في غزة وصوت المفاوضات الهادئة في شرم الشيخ، تتشكّل رواية جديدة للأزمة، لا تكتبها البنادق فقط، بل تكتبها أيضًا الكاميرات والعناوين والشاشات. فالإعلام، الذي كان مرآةً للألم طوال شهور الحرب، بدأ يتحوّل تدريجيًا إلى منبرٍ للأمل، يوجّه أنظار العالم نحو حديث الهدنة والتفاهم، لا نحو مشاهد الدمار والدموع. في هذا السياق، تتفاعل نظرية الأطر الإعلامية مع نظرية وضع الأجندة في رسم ملامح الوعي الجمعي، فوسائل الإعلام لا تكتفي بتحديد ما يجب أن يفكر فيه الجمهور من خلال الأجندة، بل تذهب أبعد من ذلك عبر الأطر التي تحدد كيف يفكر الناس في القضايا. وهكذا، تتشكل أجندة الجمهور استجابةً لطريقة عرض الأخبار وتفسيرها، فينعكس الإطار الإعلامي على اتجاهات الرأي العام، ويُعاد تشكيل الأولويات وفقًا للرواية التي يختارها الإعلام.

لقد أدركت وسائل الإعلام — المحلية والدولية والإقليمية — أن دورها لا يقتصر على نقل الحدث، بل في صناعة المزاج العام الذي يسبق التسويات السياسية. وكلما كانت تتصاعد أخبار المفاوضات كانت تشر المزيد عن انفراجة يرتقبها المتابعون والمطلعون، منذي نوفمبر 2023، مرورًا بالقرار رقم 2735، الذي دعا إلى تنفيذ مقترح بايدن ودعم وقف إطلاق النار، حتى  الوصول إلى هذه اللحظة بمفاوضات جدية برعاية مصرية قطرية أمريكية، بات الإعلام مؤديًا دورًا أساس في تشكيل "أجندة الأمل"، وإعادة تعريف الصراع من معركة نار إلى رواية أمل "إطار إعلامي" بنظرة ذات سرد وتأثير، تُمهِّد نفسيًا لمرحلة أكثر هدوءًا واستقرارًا في المنطقة. 

غزة.. ذروة الأزمة العظيمة

في تقرير صدر عن جامعة "براون" الأمريكية هذا العام بعنوان" The Human Toll of the Gaza War: Direct and Indirect Death from 7 October 2023 to 3 October 2025"، أظهرت البيانات الميدانية والتقارير المحدثة أن عدد القتلى في غزة بلغ نحو 67،075 قتيلًا وإصابة أكثر من 169،000 شخص. شملت الخسائر تدميرًا واسعًا للبنية التحتية المدنية، بما في ذلك الأحياء السكنية والمستشفيات والمدارس. كما أشار التقرير إلى أن العمليات العسكرية ما زالت مستمرة بضربات جوية وتحركات برية، مما يعقّد إيصال المساعدات الإنسانية وإجلاء الجرحى.  
أما من الناحية السياسية، فقد تجاوز الصراع في غزة حدوده الميدانية ليصبح محورًا للتجاذبات الإقليمية والدولية، وفق تقارير "أسوشيتيد برس" الأمريكية، حيث تلعب مصر وقطر دور الوساطة بينما تدعم تركيا الموقف الفلسطيني سياسيًا وشعبيًا، وتواصل الولايات المتحدة ودول أوروبية ضغوطًا دبلوماسية لتحقيق تهدئة مؤقتة. غير أن الخلافات حول شروط وقف إطلاق النار والترتيبات الأمنية تبقي الوضع متوترًا وتعيق التوصل إلى حل دائم. وفي الجانب الإنساني، توثّق أطباء بلا حدود ومنظمات دولية مأساة المدنيين الذين قُتلوا أو شُرّدوا وسط دمار المستشفيات ونقص الغذاء والدواء والمياه، محذّرة من انهيار النظام الصحي. كما نشرت صحيفة "Le Monde" الفرنسية شهادات من الميدان تصف الوضع بأنه مأساة إنسانية غير مسبوقة تستدعي ممرات إغاثة عاجلة.

بين أجندة الإعلام وأجندة الجمهور

أدت وسائل الإعلام الدولية دورًا محوريًا في تشكيل الرأي العام تجاه مفاوضات غزة، حيث تحاول بعض المنصات إضفاء أجواء إيجابية تشير إلى إمكانية التوصل إلى تهدئة. فقد نقل مراسلون من شرم الشيخ أن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب ألمح إلى احتمال زيارته للشرق الأوسط في حال تحقق اتفاق، وهو ما عرضته صحيفة "The Guardian"، كإشارة رمزية إلى جدية المفاوضات. هذا النوع من التغطية يُسهم في توجيه الانتباه نحو مسار السلام أكثر من مسار الحرب.

من جانب آخر، أبرزت وكالات أنباء عاملية مثل رويترز (Reuters) في تقاريرها نحو تصاعد المشاركة الدبلوماسية بين الأطراف، مقدمةً الحدث كخطوة ملموسة نحو التفاوض لا مجرد تصعيد ميداني. ويمثل هذا التحول الإعلامي في اللغة والمضمون محاولة لتصوير العملية التفاوضية على أنها تقدم سياسي واقعي، مما يخلق لدى الجمهور تصورًا بوجود فرصة حقيقية لإنهاء النزاع المسلح، وهذا ما انتهجه الإعلام العربي على جميع مستوياته، فالقضية كانت قضيته، والتتبع كان في الأغلب ن كسب وعبر المراسلين وتوارد المعلومات.

وكالات عالمية وصحف إقليمية وعربية وفضائيات ومراصد إعلامية ذات تأثير واسع ركزت على تغطية موضوع قوائم الأسرى وتبادلهم باعتباره محورًا رئيسًا في محادثات التهدئة، مؤكدة أن مشاركة مسؤولين رفيعي المستوى من الولايات المتحدة وقطر تشير إلى التزام دولي متزايد بالوصول إلى هدنة. هذا التركيز في الأجندة الإعلامية ينقل الاهتمام العام من مشاهد الدمار إلى مشاهد المفاوضات، وهو ما يساهم في خلق مناخ نفسي أكثر ميلًا إلى الأمل والتهدئة بدلًا من الصدام.

وفي البعد الإنساني، كان نقل التقارير الميدانية وتسليط الضوء على المأساة الإنسانية في غزة، والحديث حول وصية بابا الفاتيكان الراحلة البابا فرانسيس بتحويل سيارته إلى مستفى ميداني لعلاج أطفال غزة، مشيرة – على السواء – نحو انهيار النظام الصحي والحاجة العاجلة لوقف إطلاق النار، هذا الخط الإنساني في التغطية. 
ما سبق على سبيل المشال لا الحصر، وبنظرة أكثر تفاؤلية نحو الإعلام الداعم للقضية والإيجابي غير ذي الطابع السلبي، سواءًا في التغطية أو من خلال المعالجة أو التناول والتعاطي مع الاحداث بشكل عميق ومستقصٍ لكل دقيق أو عظيم من الحدث.
هذه الأجندة التي تمتعت بها وسائل الإعلام، واعتمادها على أطر تنوعت بين التغطية الحيَّة، والأطر العسكرية السياسية والإقليمية، إضافة للاطر الإنسانية والدينية، تمازجت جميعها بدورها مع أطر تؤول إلى الجمهور الذي يشاهد، وتختلط لديه مشاعر كثيرة بين الغضب والخوف والقلق إزاء مستقبل غزَّة. هذه الأطر التي لا تتناقض جذريًا مع معتقداته بأنَّ هناك حق وأنَّ للارض صاحب وأنَّه مهما كانت تداعيات أو قناعات القوى الكبرى فإنَّها تخاطب يؤمن به القارئ والمشاهد، وكذلك آماله وطموحاته نحو شكل مستقبلي للامر الحاصل والواقع أمام عينيه، والذي لم يكن ليحتمل كَذِبًا أو تدليس.

نظرة تفاؤلية

لقد نجح الإعلام على كافة مستوياته بامتياز أن يبلور القضية والأحداث، منذ بدايتها، مرورًا بتطوراتها حتِّى بلغت ذروة الأزمة، وها هي تطرح بكل تفهم وعن كسب وعن تتبع وترقب كل مسارات و"أطر الحلول" التي تغدو أملًا في بناء واقع جديد تشهده الدولة الفلسطينية، وتنفتح معه مسارات جديدة لأبناء قطاع غزَّة الذي عانى طيلة العامين السابقين.