أبطال لا يُنسون.. حكايات من قلب معركة الكرامة

تقارير وحوارات

أبطال لا يُنسون..
أبطال لا يُنسون.. حكايات من قلب معركة الكرامة

تكثُر الحكايا والأحاديث، لكن حكاية أكتوبر 73، ليست كأي حدث عارض، ليست فقط مجرَّد معركة أتت بنصر جيش على جيش، بل درسًا للأعداء جميعًا وللأجيال القادمة. للأعداء حين ظنَّ الكيان الصهيوني، جدلًا بانَّ لديه جيش لا يُقهر، وأنَّ جهاز استخباراته قوَّة لا تقبل الاستهانة، لكن هيهات هيهات فقد انكسر. وللأجيال فإن أكتوبر المجيدة كانت حرب استردا الكرامة، وتعريف للبطولة بأنَّ الهزائم وإن طالت فإنَّ نصرًا يومًا حتمًا سيحل، هكذا علَّمنا أكتوبر المجيد، ذلك النصر الذي جسَّد بأنَّ يد الله مع صاحب الحق، صاحب الأرض.

في صباح السادس من أكتوبر عام 1973، أشرقت شمس النصر على أرض مصر تحمل في ضيائها روح الأمل والتحدي، وبدأ فصل جديد من تاريخ الوطن. كانت السماء تشهد ميلاد يومٍ غير عادي، يومٍ ارتفعت فيه دعوات الأمهات، وتوحدت فيه القلوب على هدف واحد: استعادة الأرض والكرامة. انطلقت أرواح الأبطال تحمل الإيمان والعزيمة، وكل جندي كان يدرك أنَّ له دور فريد، ويعلم جيدًا تلك اللحظة ستسجل اسمه في صفحات المجد.
حكايا اليوم هي حكايا الأبطال وإن كثثرت في هذه المعركة، فإنَّ حكايا الأبطال في السطور المقبلة، وإنكانت مثالًا لا للحصر، ليست أوفى من أدوارهم التي كانت أمانة على أكتافهم حملوها بكل صدق ويقين، فأهدوا أنفسهم للحرب والموت، فأهداهم الله النصر المبين.

الصول أحمد إدريس
الصول أحمد إدريس "لنوبي"

الصول أحمد إدريس "لنوبي"

لم يكن يتوقع جيش العدو نفسه بأنَّ هناك حربًا بهذه الخطورة واقعة على راسه كطامة كُبرى، لغة وشفرة، قد يعلما الصغير في بلاد النوبة ينطق بها، كما ينطقون هم العبرية، وكلمة السر من الصول أحمد محمد أحمد إدريس من قرية توماس وعافية بمحافظة أسوان، ونشأ في بيئة نوبية أصيلة غرست فيه حب الوطن والانتماء. التحق بالجيش المصري عام 1954 متطوعًا في قوات حرس الحدود، وشارك في العديد من المعارك. في عام 1971، وبينما كان يخدم في القوات المسلحة، علم أن الرئيس أنور السادات يبحث عن وسيلة آمنة لتأمين الاتصالات بين القوات المصرية دون أن تتمكن إسرائيل من فكها، خصوصًا بعد أن نجحت في التصنت على الاتصالات العسكرية. عندها تقدم إدريس بفكرة عبقرية وهي استخدام اللغة النوبية كلغة سرية مشفرة، فهي لغة تنطق ولا تُكتب ولا يعرفها سوى النوبيين. نُقلت فكرته إلى القيادات العليا، ومنها إلى الرئيس السادات، الذي أمر باستدعائه فورًا، وتم اقتياده مكبل اليدين ظنًا منه أنه معتقل، حتى فوجئ بمقابلته للرئيس نفسه. شرح إدريس فكرته أمام السادات الذي أُعجب بها بشدة وقرر اعتمادها سرًا تامًا ضمن خطة الإعداد لحرب أكتوبر.

نجحت فكرة أحمد إدريس نجاحًا باهرًا، إذ أصبحت اللغة النوبية الشفرة غير القابلة للاختراق التي استخدمها الجيش المصري في الاتصالات بين الوحدات خلال حرب أكتوبر 1973، مما أربك العدو تمامًا وساهم في الحفاظ على سرية التحركات المصرية حتى تحقيق النصر. ظل إدريس محتفظًا بسر بطولته لأكثر من 40 عامًا، حتى كشفه عام 2010 بعد أن حاول آخرون نسب الفكرة لأنفسهم. وفي عام 2017، كرمه الرئيس عبد الفتاح السيسي ومنحه وسام النجمة العسكرية تقديرًا لدوره العظيم في خدمة الوطن. رحل "صاحب الشفرة النوبية" عن عالمنا عام 2021، لكنه ترك للأجيال درسًا خالدًا في الوطنية والذكاء والوفاء لمصر.

الراحل البطل محمد المصري

يُعد الراحل محمد المصري، الملقب بـ "صائد الدبابات"، أحد أبرز أبطال حرب أكتوبر 1973، حيث لعب دورًا محوريًا في تحقيق النصر المصري. وُلد في مركز أبو المطامير بمحافظة البحيرة، ونشأ في بيئة يغمرها حب الوطن والانتماء للجيش. التحق بالخدمة العسكرية عام 1969 في سلاح الصاعقة، ثم انضم لاحقًا إلى سلاح المظلات ليصبح من أفراد النخبة في القوات المسلحة، مشاركًا في معركة العبور التي غيّرت مجرى التاريخ.
أظهر محمد المصري شجاعة نادرة خلال الحرب، إذ كان ضمن الموجة الأولى التي عبرت قناة السويس، وواجه العدو في معارك شرسة. أطلق أول صاروخ له وهو في الثالثة والعشرين من عمره، ليبدأ مسيرة بطولية تُوجت بتدمير 27 دبابة إسرائيلية، ما منحه لقب "صائد الدبابات". كان يستخدم أساليب ميدانية دقيقة في تنفيذ مهامه، كالتخفي داخل حفر برميلية لتفادي اكتشاف موقعه، مما جعله رمزًا للدقة والجرأة في القتال.

ومن أبرز لحظاته التاريخية مواجهته العقيد الإسرائيلي عساف ياجوري، قائد إحدى الفرق المدرعة، إذ تمكن المصري من تدمير دبابته وأسره لاحقًا. وعند لقائهما، أدى ياجوري له التحية العسكرية، في مشهد يعكس الاحترام المتبادل بين المقاتلين. وبعد عقود من الحرب، تم تكريم البطل محمد المصري في الندوة التثقيفية الأربعين للقوات المسلحة عام 2023 بحضور الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي أشاد بدوره العظيم في نصر أكتوبر، مؤكدًا أن بطولات أمثاله هي الأساس الذي بُنيت عليه مصر الحديثة.

المجند سامي عبدالكريم

المجند سامي عبدالكريم، شاب في ريعان الشباب، كان يختبئ خلف الأشجار على ضفاف قناة السويس، وقلوب أصدقائه تضرب في تناغم مع دقات قلبه، يتساءلون: "هل سنعبر؟". كان يردد مع رفاقه: "إنها حربنا، ولن نعود إلا بالنصر." وبدفعة من الإيمان، قادهم قائدهم نحو المجد، حيث استشعروا أن كل خطوة في الماء كانت كفيلة بجعل التاريخ يكتب أسماءهم بأحرف من نور.

كانت لحظات العبور بالنسبة له لحظات ولادة جديدة، فقد كان يشعر أن الأرض والماء والسماء كلها تهتف باسم الوطن. سار بخطى ثابتة رغم الخوف، لأن الإيمان بالنصر كان أقوى من أي تردد. لقد جسد سامي روح الشاب المصري الذي لا يعرف المستحيل.
 

الرقيب محمد العطار

في قلب المعركة، كان الرقيب محمد العطار يُعتبر عمدة الأمل بين رفاقه. تقدم بكل شجاعة نحو الصفوف الأمامية، وسط رصاص يخترق الهواء وضربات مدفعية تصم الآذان، لكنه كان يرى أمامه الأفق مفتوحًا على الحرية. لم يكن يهاب الموت، بل كان يبتسم له بثقة المقاتل الذي يعرف أن روحه جزء من الوطن.
القتال كان يشتعل حوله لكنه لم يتراجع، بل رفع سلاحه كأنه يحمل عزم الأمة كلها. أصيب وعادت يده معطوبة، لكن روحه بقيت سليمة. كان يقول دائمًا إن "النصر لا يأتي إلا بالتضحية"، فصار مثالًا للصمود تحت النيران.

الشهيد حسام السعيد

تلك اللحظة التي سقط فيها الشهيد حسام السعيد كانت كالصاعقة. كان حسن المظهر، ذكيًا وطموحًا، وحين تم اختياره للذهاب إلى الجبهة، كانت الأعين تملؤها الفخر. كان يرى في واجبه شرفًا، وفي موته خلودًا. لم يتردد لحظة في تلبية نداء الوطن.

أصر على الدفاع عن بلده رغم معرفته أن الموت قد يكون مصيره. رحل بجسده، لكنه خلد اسمه في قلوب المصريين، وبقيت ذكراه رمزًا للعطاء الذي لا يعرف حدودًا.

العقيد مصطفى الجمال

العقيد مصطفى الجمال، قائد لا يُنسى، جمع بين الحكمة والقوة، وكان يرى في الحرب طريقًا نحو تحقيق السلام. في خضم المعارك، لم يكن يفكر في المجد الشخصي، بل في بناء مستقبلٍ يعيش فيه أبناؤه دون خوف.

كان يحارب من أجل الحرية، لكن في قلبه حلم دائم بالسلام. كان يعلم أن كل طلقة هي خطوة نحو غدٍ أفضل، وأن النصر الحقيقي هو أن يعمّ السلام بعد الحرب.

قرار السادات والإشكاليات الفنية
قرار السادات والإشكاليات الفنية

قرار السادات والإشكاليات الفنية- ابتكار مدني أنقذ الموقف

في 1972 اتخذ الرئيس أنور السادات خطوة حاسمة بطرد أو إنهاء وجود الخبراء السوفيت والعسكريين المرتبطين بروسيا داخل مصر، قرار كان له دوافع سياسية واستراتيجية وجعل مصر تواجه فجأة نقصًا في دعم الصيانة والتجهيزات العسكرية من مورد رئيسي سابق. ومع توقف بعض الإمدادات الحيوية — ومنها مشكلات في توريد إطارات الطائرات وما يصاحب ذلك من قيود على عمر الإطار وعدد مرات الهبوط المسموح بها، فاضطرت الطواقم الجوية لتبني حلول مؤقتة كتهدئة طرق الهبوط لتمديد عمر الإطارات، لكن هذا لم يكن حلًا دائمًا أمام تدهور جاهزية السلاح الجوي. 

الدكتور المهندس محمود يوسف 
الدكتور المهندس محمود يوسف 

الخلاص جاء من جهد مدني–علمي بقيادة الدكتور المهندس محمود يوسف سعادة بالمركز القومي للبحوث، الذي كُلّف بفحص وإعادة تأهيل مخزونات وقود صاروخية منتهية الصلاحية ونجح خلال فترة قصيرة في فك تركيبة هذا الوقود واستخلاص كميات صالحة للاستخدام والتوصل إلى وصفة لإنتاج مكونات الوقود محليًا. تحولت معامل وبحوث المركز إلى عمل مكثف مع القوات المسلحة، وأُنتجت كميات كبيرة — تذكر المصادر أنها بلغت عشرات الأطنان — ما ساعد الدفاع الجوي المصري على أداء دوره بكفاءة في أكتوبر 1973 وساهم في نتائج معروفة للمعركة الجوية. إنجازات الدكتور محمود وفِرَق العمل المدنية والعسكرية كانت مفاجأة للخبراء الخارجيين ودعامة مهمة لنجاح منظومة الدفاع الجوي في الحرب.

المدني الذي دعَّم الجنود -  محمود الشافعي

لم يكن فقط الجنود من شاركوا في تلك الحرب، بل كان هناك المدني محمود الشافعي، الذي قدم الدعم اللوجستي بكل تفانٍ وإخلاص. كان يجسد قيم التعاون والإيثار، يمد الجنود بالماء والطعام وكأنه يمدهم بالحياة نفسها.

كان يعمل في صمت، يشعر أن كل جرة ماء يحضرها وكل علبة طعام يوصلها هي سلاح آخر في يد المقاتلين. لم يحمل بندقية، لكنه حمل روح الوطن في قلبه، فصار جزءًا من ملحمة النصر.

المرأة المصرية – جندي في الظل 

التي تحملت الصعاب بمفردها بينما كان زوجها على الجبهة يدافع عن الوطن ست سنوات كاملة منذ نكسة 1967 وحتى نصر أكتوبر 1973. لم تكتفِ بالصبر والانتظار، بل خرجت إلى الشوارع تبث الحماس في نفوس المواطنين، وتوجهت إلى المستشفيات لمساعدة المصابين وخدمتهم، وانضمت إلى الهلال الأحمر لتتعلم التمريض وتخدم جرحى وطنها بكل حب وإخلاص. كانت نموذجًا للمرأة المصرية التي حملت على عاتقها مسؤولية البيت والوطن معًا، فكانت رمزًا للعطاء الذي لا ينضب.

أم علي – المرأة المصرية الصامدة

في جانب آخر من ملحمة أكتوبر، كانت المرأة المصرية مثالًا للصبر والثبات. أم علي، التي فقدت زوجها في الحرب، لم تستسلم للألم، بل واجهت الحياة بقوة الإيمان. كانت تعرف أن زوجها رحل من أجل الكرامة، فواصلت طريقه في تربية أبنائها على حب الوطن. لم تكن تريد أن تنحني، بل كانت ترفع رأسها عاليًا بكل فخر. أصبحت رمزًا للأمل والإصرار، تمثل روح المرأة المصرية التي تبني وتضحي من أجل وطنها كما يفعل الرجال في ساحات القتال.

صورة نادرة ومتداولة لـ السيدة فرحانة حسين الرياشات
صورة نادرة ومتداولة لـ السيدة فرحانة حسين الرياشات "شيخة المجاهدين"

فرحانة حسين الرياشات "شيخة المجاهدين"

فرحانة، الملقبة بـ "شيخة المجاهدين"، ابنة قبيلة الريشات بشمال سيناء، سيدة بدوية سطرت تاريخها الوطني بدمائها. بعد انفصالها عن زوجها، كرّست حياتها لأبنائها ووطنها، فانضمت إلى المخابرات الحربية بعد النكسة، وكانت مهمتها رصد تحركات العدو الإسرائيلي وزرع القنابل ونقل الرسائل إلى رجال المقاومة. تميزت بالذكاء رغم أميتها، فكانت تحفظ أرقام سيارات العدو ورموزها، وكَسرت تقاليد قبيلتها حين اختارت طريق الجهاد، قائلة: "سمعت كلامًا قاسيًا، لكن هدفي كان مصر". نفذت واحدة من أكبر العمليات الاستخبارية بالحصول على خريطة مطار للعدو وتصوير وثائق لمعسكراته، بل وصلت إلى كامب ديفيد لتصوير قواعد عسكرية هناك. ورغم القبض عليها ومحاولة إغرائها بالاعتراف، تظاهرت بالجهل حتى أُطلق سراحها. كرّمها الرئيس أنور السادات ومنحها نوط الامتياز من الطبقة الأولى تقديرًا لدورها البطولي في دعم القوات المسلحة أثناء حرب أكتوبر 1973.

فردوس فرحات "النوبية"

فردوس فرحات، السيدة النوبية المكافحة، تركها زوجها وحدها مع ابنها الوحيد "صبحي الشيخ" فتحملت مسؤولية تربيته حتى أصبح طيارًا مقاتلًا في الجيش المصري. شارك ابنها في حرب أكتوبر المجيدة، وأسقط طائرتين من طراز "ميراج"، ثم اقتحم دشمة رباعية لطائرات العدو في ملحمة عُرفت بـ "ضربة السيطرة" يوم 6 أكتوبر 1973، واستشهد ببطولة وشرف. وعندما أُبلغت الأم بخبر استشهاده، قالت بثبات مؤمن: "ابني حقق اللي كان بيتمناه، ربنا أكرمه بالشهادة". أثرت كلماتها في قلوب الجميع، وكرمها القائد الأعلى للقوات المسلحة بتحية عسكرية تقديرًا لصبرها وفخرها، وصار اسم ابنها "صبحي الشيخ" من رموز التضحية والإقدام في تاريخ الجيش المصري.

تبقى حرب السادس من أكتوبر المجيدة درسًا علميًا وعمليًا ليس فقط عسكريًا أو أكاديميًا، بل إنَّها جذوة النار التي لا تنطفئ في عقول الحليف والعدو، فهي البطولة المتجسِّدة، أسطورة تحققت وحقَّقت معه واقع مصر التي تنظر بعيون الأمن والسلام من قريب، وعيون الغضب من بعيد لكن من تساوره نفسه لان يقتربأو يمسها بسوء.