«بعد 25 عاما» من غزة إلى كل العالم.. محمد الدرة يكتب بدمه شهادة لا تسقط بالتقادم
رغم مرور السنون تحل الذكرى وما حلولها إلَّا بروزًا، فما فارقت أذهان ولا قلوب الذين عاشوها، الدُرَّة اسم لا ينساه ابناء جيل الثمانينات والتسعينات ممن عاشوا هذه المرحة ورأوا بأمِّ اعينهم الخٍسّة والنذالة، رصاص المسَّلح في قلب الطفل الأعزل، الذي استتر بحضن أبيه، لا يريد شيئًا سوى الحياة، تلك الحياة التي يومًا كانت عدلًا، وانقلبت بين عشية وضحاها ظلما وجورًا كبيرًا، وكأن العالم كلَّه تآمر لقتل ضغير، وكأن البراءة ذُبِحت في تلك اللحظة من ذاك الزمان القديم، الأقدم من رُبع قرن.
لحظة صنعت ذاكرة العالم
وثّقت عدسة مصور فرنسي لحظة إعدام محمد الدرة في شارع صلاح الدين جنوب مدينة غزة. الشريط الذي بُثّ وقتها هزّ العالم بأسره، فقد شاهد الملايين طفلًا أعزل يحتمي بجدار إسمنتي بجوار أبيه جمال الدرة، قبل أن تحيطهما النيران من كل جانب، ثم يسقط محمد غارقًا في دمائه.
لم تكن تلك اللحظة مشهدًا عابرًا، بل تحولت إلى رمز عالمي للظلم، وأيقونة للانتفاضة الفلسطينية الثانية التي اندلعت بعد اقتحام أرييل شارون لباحات المسجد الأقصى في 28 سبتمبر 2000.
الطفل الشاهد والشهيد
وُلد محمد الدرة في 18 نوفمبر 1989 في مخيم البريج وسط قطاع غزة، وترعرع في أسرة بسيطة. عرفه والده بأنه "شجاع، كريم، لا يحب الظلم، ويحب الخير للناس". أحب السباحة وكرة القدم، وكان يحلم بأن يكون قائدًا يدافع عن قضيته، قبل أن يسبق حلمه رصاص الاحتلال.
في يوم استشهاده خرج مع أبيه ليشتري سيارة من سوق الزيتون، لكن عودتهما مرّت عبر شارع صلاح الدين قرب مستوطنة "نتساريم". هناك حاصرتهما النيران الإسرائيلية الكثيفة، فاضطرّا للاختباء خلف برميل إسمنتي، إلا أن الرصاص لاحقهما بلا رحمة.

صرخة أب ودمعة أم
يحكي جمال الدرة أنه أصيب أولًا في يده، بينما أصيب محمد في ركبته. كان الابن يسأل والده: "لماذا يطلقون النار علينا؟"، لكن السؤال ظلّ معلقًا في وجه عالم أصمّ.
وبينما الرصاص ينهمر كالمطر، اخترقت رصاصة بطن الطفل، فسقط صامتًا في حضن أبيه. لحظتها خرجت الصرخة الخالدة: "مات الولد"، لتصبح أيقونة لبشاعة الاحتلال.
أما والدته آمال الدرة، فتتذكر اليوم قائلة: "كنت أظن أن خروجه مع والده أكثر أمانًا من ذهابه إلى المظاهرات، لكنني رأيته يُغتال أمام العالم على شاشات التلفزيون".
أثر لا يمحى
استشهاد محمد الدرة لم يكن حادثة فردية؛ بل كان شاهدًا على فترة دموية قاسية. خلال الانتفاضة الثانية قتلت إسرائيل نحو 4400 فلسطيني وجرحت ما يقارب 50 ألفًا.
محمد صار رمزًا للألم الفلسطيني، ورمزًا للطفولة المسلوبة. صورته جابت العواصم، رفعتها المسيرات، وتحوّلت إلى ملصق دائم في وجدان كل من آمن بعدالة القضية الفلسطينية.
من الشريط إلى الذاكرة الحية
لم تتوقف معاناة عائلة الدرة عند ذلك اليوم؛ ففي حرب 2008 قصفت طائرات الاحتلال منزل الأسرة، وأعيد قصفه مرة أخرى عام 2014.
ورغم مرور العقود، بقيت جريمة قتل محمد حاضرة كأنها وقعت أمس، إذ تحولت إلى ملف حيّ يُستحضر كلما تحدّث الفلسطينيون عن الجرائم الإسرائيلية التي لا تسقط بالتقادم.
الدرة.. أيقونة المقاومة
محمد الدرة لم يكن مجرد طفل فلسطيني؛ لقد أصبح أيقونة للمقاومة، ورمزًا لوحشية الاحتلال، وصوتًا يتردّد في كل بيت عربي. قصته تلخّص المأساة الفلسطينية الممتدة: شعب يريد حياة طبيعية، فيواجه رصاصًا وحصارًا واغتيالًا ممنهجًا للطفولة.

وبعد خمسة وعشرين عامًا، لا تزال صورته مرفوعة، ودمه يكتب شهادة مفتوحة: أن الحق لا يموت، وأن الجريمة مهما مرّ عليها الزمن تبقى جرحًا مفتوحًا في ضمير الإنسانية، فلحظة صنعت الذكرة، وأشعلت جذوة الحافظين للقضية، وصفعت وَجْنَات الغافلين.