لغة الإشارة.. جسر حياة بين الصمت والتواصل |تقرير
في الثالث والعشرين من سبتمبر من كل عام، يقف العالم أمام مناسبة إنسانية مهمة، هي اليوم العالمي للغة الإشارة، الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2017 ليكون يومًا عالميًا للتذكير بحقوق الصم وضعاف السمع، والتأكيد على أن لغة الإشارة ليست مجرد وسيلة بديلة عن النطق، بل هي لغة قائمة بذاتها تحمل هوية ثقافية، وتفتح أبوابًا للتواصل والاندماج والكرامة الإنسانية.
تشير تقديرات الاتحاد العالمي للصم إلى وجود أكثر من 72 مليون شخص أصم حول العالم، يتواصلون عبر أكثر من 300 لغة إشارة مختلفة. وفي مصر وحدها يقدر عدد الصم وضعاف السمع بنحو 7.5 مليون شخص، ما يجعل الملف قضية ذات أبعاد اجتماعية وتنموية ملحة.
لغة كاملة وهوية ثقافية
لغة الإشارة لا تُختزل في كونها وسيلة للتعبير عن الكلمات بالإيماءات، بل هي منظومة لغوية متكاملة لها قواعدها النحوية وأساليبها التعبيرية، تعكس المشاعر والأفكار بنفس العمق الذي تعكسه اللغات المنطوقة. إنها جسر للتواصل الفعّال بين الصم وأسرهم ومجتمعهم، وأداة لحماية الهوية الثقافية لمجتمع الصم من التهميش أو الذوبان.
كما أن الاعتراف الرسمي بلغات الإشارة يعدّ خطوة محورية في تمكين الأشخاص ذوي الإعاقة السمعية من ممارسة حقوقهم الأساسية في التعليم، والعمل، والصحة، والخدمات العامة، وفتح آفاق جديدة للتفاعل الاجتماعي، بعيدًا عن العزلة والإقصاء.
التزامات دولية وتشريعات وطنية
أولت المواثيق الدولية اهتمامًا خاصًا بلغة الإشارة، إذ نصّت اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة في مادتيها (9) و(21) على ضمان حق الأشخاص الصم في الوصول إلى المعلومات والخدمات بلغة الإشارة، والاعتراف بها رسميًا في المؤسسات التعليمية والإعلامية والقضائية.
أما في مصر، فقد وضع الدستور المصري والقانون رقم 10 لسنة 2018 إطارًا شاملًا للاعتراف بلغة الإشارة كوسيلة رسمية للتواصل، مع إلزام المؤسسات التعليمية ووسائل الإعلام والمحاكم بتهيئة البيئة المكانية واللغوية الداعمة. وأكدت اللائحة التنفيذية للقانون على توفير مترجمي لغة الإشارة في المدارس، المستشفيات، أقسام الشرطة، والهيئات الحكومية، ضمانًا للمساواة والإنصاف.
مصر.. خطوات عملية نحو الدمج
على أرض الواقع، تبذل الدولة المصرية جهودًا واسعة لتمكين الصم وضعاف السمع، تقودها وزارة التضامن الاجتماعي بالتعاون مع الوزارات والهيئات المختلفة. ومن أبرز هذه الجهود:
الكشف المبكر والتأهيل الطبي عبر قوافل طبية للأطفال دون سن 4 سنوات، وتوفير السماعات الطبية.
72 مركزًا لغويًا يقدم خدمات التخاطب وقياس السمع والتأهيل لأكثر من 8300 مستفيد.
دمج 587 طالبًا من الصم وضعاف السمع في كليات التربية النوعية بـ13 جامعة مصرية خلال العام الدراسي 2024/2025، مع توفير مترجمي لغة الإشارة داخل الحرم الجامعي.
دعم اقتصادي واجتماعي من خلال مشروعات صغيرة ومتناهية الصغر، قروض ميسرة، مشاركة في معارض مثل "ديارنا"، إلى جانب إتاحة الدعم النقدي "كرامة" للأسر المستحقة.
برامج توعوية وتأهيلية مثل برنامج "عطاء" وبرنامج "مبادئ لغة الإشارة لتواصل أفضل" لرفع مهارات العاملين في التعامل مع الأشخاص ذوي الإعاقة السمعية.
رسالة اليوم العالمي
اليوم العالمي للغة الإشارة ليس مجرد احتفال رمزي، بل هو تجديد للعهد المجتمعي والإنساني بضرورة دعم حقوق الصم وضعاف السمع، وبناء مجتمع أكثر شمولًا يقوم على مبدأ المساواة والاحترام المتبادل.
فاللغة هي مفتاح الاندماج، ودون الاعتراف بلغة الإشارة يظل ملايين الأشخاص حول العالم أسرى للصمت والعزلة. أما حين تُفتح أمامهم قنوات التعبير والتواصل، فإنهم يصبحون طاقة مضافة للمجتمع، يساهمون بإبداعهم في كافة المجالات.
إن الاحتفال باليوم العالمي للغة الإشارة دعوة للتأمل في معنى التواصل الإنساني، وللتأكيد على أن التنوع اللغوي والثقافي هو ثراء للمجتمعات لا عبء عليها. ومع تزايد الجهود الوطنية والدولية، يظل الأمل قائمًا في بناء عالم لا يُقصى فيه أحد بسبب اختلاف وسيلة تواصله.