نتنياهو مؤسس الدولة الفلسطينية

مقالات الرأي

أحمد سامي
أحمد سامي

قد يبدو العنوان صادما أو حتى ساخرا، لكن لا أجد أدق منه للتعبير عن التحول التاريخي الذي نشهده اليوم في عمر القضية الفلسطينية.

بنيامين نتنياهو، الذي أراد أن يدفن القضية إلى الأبد، وجد نفسه -بجرائمه وعدوانه وغطرسته وغبائه- قد أعادها إلى صدارة المشهد العالمي، وأجبر الدول الكبرى على الاعتراف بدولة فلسطين، وأخرهم بريطانيا وكندا والبرتغال وما زال القوس مفتوحا لانضمام دول أخر ليصل العدد إلى نحو 150 دولة حول العالم.

ولأول مرة، أشعر بامتنان لهذا "النتن" الذي لم يدرك أن يده الملطخة بالدماء هي التي رسمت بأبشع صورة حدود الدولة الفلسطينية المقبلة، وهنا لا أخفي ألمي الشديد وحزني العميق على ما آلت إليه الأوضاع في غزة.

تلك البقعة الطيبة تحولت إلى صحراء جرداء بفعل آلة عسكرية لا تعرف رحمة، إبادة جماعية ترتكب في وضح النهار أمام أعين العالم، ودماء أطفال ونساء تزهق بلا ذنب سوى أنهم فلسطينيون.

الحزن لا يمكن تجاوزه بسهولة، ولا يمحيه سوى زوال هذا الكيان الغاصب الذي قام على أنقاض أرواح الأبرياء، لكن وسط هذا الألم، هناك شعور آخر يملؤني، ذلك الشعور بالعزة والفخر بموقف بلدي، مصر، قيادة وجيشا وشعبا.

ولولا صلابة الموقف المصري، لما كانت بوصلة العالم تحركت بهذا الشكل، ولما تجرأت دول غربية كبرى كبريطانيا وكندا وغيرها على الاعتراف بالدولة الفلسطينية.

ولقد أثبتت مصر مجددا أنها قلب العروبة النابض وحصنها الأخير، وأنها الدولة الوحيدة القادرة على نصرة فلسطين وقدمت وما زالت تقدم الكثير والكثير، وأن دورها لا يمكن تجاوزه مهما حاولت قوى الشر التلاعب بخريطة المنطقة.

الاعترافات التاريخية من الدول الأوروبية بالدولة الفلسطينية، نقطة تحول غير مسبوقة في مستقبل القضية، لكن لا بد إن يقترن ذلك بخطوات حقيقية على الأرض، تؤكد سلامة نية تلك الدول، وتواجه الصلف والتعنت من جانب نتنياهو الذي يتعهد بمنع قيام الدولة الفلسطينية، في تحد صارخ وفج للإرادة الدولية.

إن الاستقلال لم يكن يوما طريقا مفروشا بالورود، بل هو تضحيات ودماء، وأثمان باهظة تدفع من أجل الحرية. والتاريخ مليء بالشواهد: الجزائر مثلا، التي تحررت بعد أكثر من مليون شهيد، وكل الدول التي قاومت الاستعمار القديم لم تصل إلى حريتها إلا بعد تضحيات مريرة.

واليوم، يعيد الفلسطينيون كتابة هذا الدرس، بدمائهم وصمودهم، ليبرهنوا أن الحرية لا تمنح وإنما تنتزع.

ما نراه الآن هو أن المشروع الصهيوني الذي ما دام حاول أن يفرض نفسه كأمر واقع بدأ يتآكل من الداخل.

إسرائيل لم تعد ذلك "الجيش الذي لا يقهر"، بل باتت دولة منبوذة، متهمة بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية، وملاحقة في ساحات القضاء الدولي.

حتى الرأي العام الغربي، الذي ما دام انحاز لها بلا شروط، بدأ يتململ وينتفض، المظاهرات في شوارع لندن وباريس ونيويورك لم تأت من فراغ، بل من وعي شعبي بأن هناك ظلما صارخا يمارس بحق الفلسطينيين.

ولا شك أن يوم 7 أكتوبر 2023 سيظل رقما فارقا في معادلة الصراع، لقد كان الشرارة التي قلبت كل الموازين، وكشفت عورة المشروع الصهيوني أمام العالم، وجعلت الاعتراف بالدولة الفلسطينية ليس مجرد خيار سياسي، بل حقيقة تتشكل ملامحها على أرض الواقع.

قد يكون نتنياهو ظن أنه يدفن الحلم الفلسطيني، لكنه في الحقيقة — ومن حيث لا يدري — صار المؤسس الحقيقي لولادته الجديدة.

التاريخ يسخر أحيانا من أبطاله المزيفين، فيحولهم إلى أدوات بيد الشعوب المقهورة لتنال حقها، واليوم، نتنياهو نفسه هو أكبر شاهد على أن فلسطين لا تموت، وأن دماء غزة لم تهدر سدى، بل أصبحت وقودا لإحياء الحلم الفلسطيني الذي لن يطفأ.

الحقيقة المؤكدة أن العد التنازلي لزوال ذلك الكيان العنصري المتطرف قد بدأ، ودقت ساعة الاستعداد لانتظار ذلك لتتخلص البشرية من أقذر فئة بشرية على مدار التاريخ.