أما آن للروح أن تستريح.. الحرب والفقر يرسمان النهاية في "بستان القصر" بحلب
كم من أرواحٍ تغيب، قبح الله الحرب التي تأتي بشؤم النهايات، وتجعل من المآسي نهاياتٍ للناس على أطراف المدينة أو وسط الزحام، أو في جوانب لا يألف الناس فيها سوى الغربة، فتكون النهاية على مقعدٍ خشبي، صامتين يشتركان في صفة الجمود: الأول تحكمه طبيعته الفيزيائية، والثاني أكل الصراع ما تبقى لديه من أمل.
“دَلَلْتُ اُبني على قبري، فأعْجَبَهُ ونامَ، ولم يُوَدِّعْني”، هكذا كتبها الراحل محمود درويش في قصيدته "لا شيء يعجبني"، وهو يصف سوداوية المشهد. ربما أيضًا بطلة القصة أعجبها أن تستريح، فاتخذت من المتّكأ ميتة، علَّها تكون سوية في عهدٍ تعوجُّ فيه الأمور، ويبات فيه ابن الوطن ضائعًا بطبيعة حاله.
موجع أم مريح.. الموت في حي البستان
في مشهدٍ موجعٍ بحي بستان القصر في مدينة حلب، جلست امرأة وحيدة على مقعد خشبي في حديقة عامة، حيث فارقت الحياة بصمت، دون أن يلتفت إليها أحد لساعات طويلة.
تحولت صورتها وهي جالسة بلا حراك إلى مرآة للوجع السوري، فصارت الجثة شاهدة على وطنٍ أثقله الفقر والحرب، حتى بات موت الإنسان في الشارع حدثًا عابرًا، لا يثير سؤالًا ولا يترك جوابًا.
التعاطف يكفي في ختام المشهد
وقد أثارت الحادثة موجة كبيرة من التعاطف على منصات التواصل الاجتماعي. كتب أحدهم: "حتى المقاعد الخشبية في الحدائق تحولت إلى شواهد صامتة على مأساة الناس"، وقال آخر: "كم من الأرواح تغادر بصمت؟ وكم من القصص تنتهي بعيدًا عن أعين الناس؟ لكِ الله يا سوريا، فقد صارت شوارعك وحدائقك شاهدة على ألم شعبك".
فيما ذهب بعض المعلقين إلى أبعد من ذلك، مقترحين تعليق صورة هذه المرأة في مكاتب المسؤولين، علَّها تكون تذكرة لهم بأن العدل والرحمة أولى من كل حساب، وكتب أحدهم بحرقة: "الصورة ذبحتني.. الوحدة بشعة، والفقر شنيع، والله أرحم الراحمين".
أرحم من حياة
رحلت المرأة التي عُرفت لاحقًا بأنها موظفة سابقة في مديرية التربية، بعد أن أنهكها المرض النفسي وغربة الروح. كانت تستند في حياتها إلى والدها العجوز، لكن رحيله قبل عام تركها وحيدة تمامًا. حاولت أن تجد دفئًا عند أخواتها بعد طلاقها الطويل، إلا أن الأبواب أوصدت في وجهها، فعادت إلى حلب محمّلة بضعف الحال وضيق اليد. لم يسعفها العلاج ولا احتضنها أحد، فاختارت الأقدار أن تكون نهايتها على مقعدٍ خشبي في حديقة صامتة، وكأن الموت كان أرحم من حياةٍ أثقلتها الخيبات.
ختامًا، هل كانت مجرد وفاة عابرة، أم علامة دامغة على واقعٍ مرير لروحٍ أنهكتها ظروف لا ترحم ومجتمع حين يقسو يغلب الشياطين. لكن يبدو أن المرأة استسلمت في صمت، فلربما آن للروح أن تستريح.