كريم وزيري يكتب: انقذوا ميدان الجيزة

أخبار مصر

كريم وزيري
كريم وزيري

لم أكن أتوقع أن قرارًا عابرًا بترك سيارتي والاعتماد على المواصلات العامة في طريقي من ميدان الجيزة إلى مقر عملي بميدان لبنان، سيفتح أمامي نافذة صادمة على واقع مرعب يتشكل أمام أعيننا في قلب العاصمة.

مع أولى خطواتي مترجلًا من أمام مقر محافظة الجيزة القديم، شد انتباهي مشهد غريب يصعب تصديقه في وضح النهار، وفي الرابعة عصرًا بالتمام، ستة شباب ملقون على الأرض، ملابسهم ملطخة بالطين، وجوههم مسوّدة كأنها لم تعرف الماء منذ شهور طويلة، يتحلقون حول ما يشبه لمبات زجاجية قديمة يتعاطون بها مخدر "الآيس" أو "الكريستال". المارة يعبرون بجوارهم في صمت، وكأن المكان تحوّل إلى مساحة خارج الزمن لا يجرؤ أحد على الاقتراب منها.

حاولت أن أستوعب ما رأيت، لكنني فوجئت بعد خطوات قليلة بمشهد آخر أشد صدمة، على بُعد أمتار من قسم الطالبية، وفي شارع جانبي، كان خمسة شباب يكررون المشهد ذاته، أحدهم يجلس منحنيًا يشحذ سكينته على حجر في العلن، بينما الآخرون غارقون في عوالمهم الخاصة، لا يفرقون بين الليل والنهار.

استكملت طريقي مترجلًا بسبب أعمال الإنشاءات أمام المترو، فنزلت أحد الأنفاق المؤدية إلى المواصلات، وهناك وجدت ثلاثة آخرين يغطّون في نوم متقطع، نصف عراة، وأيديهم في وضعيات صادمة لا تليق بمكان عام يعبر منه طلاب وجامعيون وأسر بأطفالهم، كان المشهد أقرب إلى فيلم مظلم يُعرض بلا توقف.

لكن الصدمة الكبرى كانت تحت الكوبري المؤدي إلى كلية الطب البيطري بجامعة القاهرة، حيث تنتشر مجموعات كاملة من المدمنين الذين اتخذوا المكان وكرًا دائمًا لهم، العصابات الصغيرة تتجمع في وضح النهار، لتتعاطى بلا خوف، وكأن القانون غائب، وكأن الميدان الشهير فقد روحه وأمانه.

خرجت من التجربة مثقلًا بالذهول والقلق، لقد كنت أظنها مغامرة عادية في المواصلات، لكنها تحولت إلى رحلة داخل جحيم مخدرات يبتلع شبابًا في عمر الزهور، الأسوأ أن هذه البؤر الخطيرة لا تبعد سوى خطوات عن قسم شرطة الطالبية، وكأن المسافة بين القانون والفوضى مجرد شارع صغير.

لا أقلل أبدًا من جهود وزارة الداخلية في مواجهة تجارة المخدرات وضبط المتاجرين بها، لكن الأمر في ميدان الجيزة يحتاج إلى أكثر من ذلك، يحتاج إلى سيطرة كاملة، إلى حملات متكررة، إلى إعادة الأمن للمكان قبل أن نفيق على جريمة قتل أو حادث مأساوي يحدث في وضح النهار، أمام عيون الجميع.

إنني أكتب اليوم ليس فقط بصفتي صحفيًا شاهد ما لا يُصدَّق، بل بصفتي مواطنًا يخشى على بلده وعلى شبابها من أن تتحول ميادينها الحيوية إلى "مناطق محظورة" تعج بالمدمنين والمهملين، الجيزة قلب نابض يمر منه مئات الآلاف يوميًا، وإذا تُرك هذا القلب ينهشه الإدمان، فسنخسر أكثر مما نتصور، أنقذوا ميدان الجيزة.. قبل أن يفوت الأوان.