بالأرقام والحقائق.. شريان مصري لا ينقطع.. كيف حمَلت القاهرة مسؤولية الإغاثة إلى غزة

في ظل واحد من أقسى المشاهد الإنسانية في الذاكرة الحديثة، لم تتعامل مصر مع مأساة غزة كجار يتابع عن بُعد، بل كجار أول يقف في خط التماس الإنساني، يحشد ممرات لوجستية، ويستقبل طائرات، ويُسير قوافل، ويؤمن الإخلاء الطبي عبر منظومة معقدة من مؤسسات الدولة والمتطوعين.
وعلى وقع إعلان منظومة تصنيف الأمن الغذائي المتكاملة دخول مدينة غزة رسميًا في حالة مجاعة في 22 أغسطس 2025، يتضاعف ثقل الأرقام المعلنة رسميًا عن حجم ونوعية المساعدات التي سهلتها القاهرة وأشرفت عليها، لتكشف عن شريان إمداد لا يتوقف رغم العوائق الأمنية والإدارية على المعابر.
ووفق إحصائية نشرتها وزارة الخارجية المصرية، فإن مصر سهلت منذ أكتوبر 2023 دخول نحو 550 ألف طن من الأغذية والمستلزمات الطبية إلى قطاع غزة، أي ما يعادل قرابة 70% من إجمالي المساعدات الإنسانية التي دخلت القطاع خلال تلك الفترة، كما سجل الخط البري والجوي والبحري المرتبط بمصر 1،022 طائرة هبطت في مطار العريش تحمل 27،247 طنًا من المساعدات، إلى جانب 591 شحنة وصلت عبر الموانئ المصرية، و168 عملية إسقاط جوي من الأراضي المصرية حملت 3،730 طنًا من الإغاثة.
ومن الحقائق البارزة في الشهور الأخيرة انتقال تمرير المساعدات عبر كرم أبو سالم، مع تعثر معبر رفح بفعل التطورات الميدانية بسبب التعنت الإسرائيلي، وفي النافذة الزمنية بين 27 يوليو و17 أغسطس 2025 وحدها، نجحت مصر حسب الإحصائية نفسها في إدخال 1،288 شاحنة عبر كرم أبو سالم.
وليس بعيدًا عن المشهد الكلي، تؤكد البيانات نفسها أن 35 ألف متطوع مصري من منظمات المجتمع المدني شاركوا في تسهيل إيصال المساعدات وتعبئتها وتوزيعها، وهو رقم يعكس طبيعة الاستجابة المجتمعية الواسعة التي ساندت عمل المؤسسات الرسمية وحالة التعبئة الممتدة منذ اندلاع الحرب.
ولا يقتصر جهد مصر على الكم، بل يمتد إلى نوعية الإمدادات فخلال أغسطس 2025، أعلن الهلال الأحمر المصري عن قافلة ضمن مبادرة زاد العزة من مصر إلى غزة حملت 2،300 طن من المساعدات، بينها سلال غذائية، دقيق، ألبان أطفال، أدوية علاجية، مستلزمات عناية شخصية، وحتى كميات كبيرة من الوقود اللازم لتشغيل الأفران والمستشفيات ومحطات التحلية المؤقتة.
وتؤكد المنظمة نفسها أن المعبر المصري ظل يعمل على إدخال عشرات الآلاف من الشاحنات منذ بداية الحرب، بما يقترب من نصف مليون طن من الإغاثة وهذا التنويع في سلة الإمداد ليس تفصيلًا ثانويًا فحين تعلن منظومة IPC بلوغ ربع سكان غزة حالة مجاعة في الشمال مع خطر الامتداد جنوبًا، يصبح الوقود بقدر أهمية الدقيق ومن دونه لا تعمل أفران، ولا غرف عمليات، ولا مضخات مياه، ولا برادات أدوية، ويعني ذلك أن كل لتر وقود يمر عبر المسارات التي نسقتها مصر يترجم حياة ممددة في مستشفى أو خبزًا إضافيًا على مائدة محاصرة.
وتحول مطار العريش إلى مركز استقبالٍ دولي لشحنات الإغاثة، بفضل شبكة تنسيقٍ قادتها وزارة الخارجية المصرية والأجهزة المعنية، وأكثر من ألف طائرة هبطت على مدرجه محملةً بالمساعدات، ليجري تفريغها ونقلها إلى مخازن الهلال الأحمر المصري في شمال سيناء، ثم تُعاد تعبئتها وتُسير ضمن قوافل إلى المعابر، هذا النسق الفني الذي يبدأ من منصة التفريغ وينتهي إلى فم الطفل في مخيم النزوح لم يكن ليعمل دون متطوعين بالآلاف وسلسلة تبريد وتأمين ونقلٍ دقيقة، ولا دون ممرات بديلة.
وعلى الضفة الأخرى من الجهد المصري، تأتي المنظومة الصحية التي أعادت توزيع طاقتها لتستوعب الجرحى والمرضى من غزة، ووفق منظمة الصحة العالمية، فقد جهزت وزارة الصحة والسكان المصرية شبكاتٍ ثلاثية الخطوط للإحالة، وخط أول بسعة 500 سرير في مستشفيات شمال سيناء في الشيخ زويد، العريش العام، بئر العبد، نخل، يتلوه خط ثانٍ بسعة 2،000 سرير في الإسماعيلية والسويس وبورسعيد، ثم خط ثالث يمتد إلى القاهرة والجيزة ودمياط والشرقية.
ويؤكد التقرير أن مصر استقبلت آلاف الحالات منذ نوفمبر 2023 وحتى إغلاق رفح في مايو 2024، قبل أن يعاد فتحه جزئيًا في 1 فبراير 2025، حيث دخلت دفعة أولى من 37 مريضًا و39 مرافقًا، مع توقعات رسمية باستقبال نحو 15 ألف حالة ذات احتياج علاجي عاجل خلال 2025.
وتُظهر بيانات منظمة الصحة العالمية أن 4،953 مريضًا و6،814 مرافقًا قد عبروا إلى مصر لتلقي الرعاية الطبية أو الاستقرار تمهيدًا للإجلاء إلى دولٍ ثالثة، فيما تتولي المنظومة المصرية بالتعاون مع شركاء أمميين وأوروبيين تنسيق تحويلات خارجية لعدد من الحالات المعقدة.
وفي بيئة أمنية متحولة حيث قد تغلق نافذة وتفتح أخرى في يوم واحد، راحت مصر تعتمد مقاربة اللوجستيات الذكية، إذا تباطأ المسار البري، تُدفع عمليات الإسقاط الجوي من قواعد قريبة داخل مصر وإذا تعطل رفح، تُعاد هيكلة التدفق عبر كرم أبو سالم، وإذا تعطل مدخل ميداني، تُمتص الشحنات داخل ساحات تخزينٍ منظمة حتى تتوفر نافذة مرور.
لذلك تصبح أرقام مثل 168 إسقاطًا جويًا/3،730 طنًا مؤشرًا على مرونة وليست مجرد رقمٍ جامد، تمامًا كما تعكس 1،288 شاحنة في ثلاثة أسابيع قدرةً على تكثيف التدفق عند توفر الإذن، ومع كل ذلك، يبقى عنق الزجاجة عند المعابر عاملًا محدِّدًا.
وحين تُعلن الـIPC مجاعةً في مدينة غزة، فذلك يعني حسب تعريفها أن مستويات انعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية والوفيات تخطت العتبات الحرجة ومن ثم فإن كل شاحنة دقيق إضافية يُسمح لها بالعبور هي تغيير مباشر في معدل الوفيات المحتمل، وفي ظل هذا الواقع تغدو منظومة مصر التي جمعت بين الممر الجوي عبر العريش، والجانبين البريين رفح وكرم أبو سالم وإسناد الإسقاطات الجوية، مع شبكة إجلاء طبي ثلاثية المستويات أشبه بآلة إنقاذ كبيرة تدور كل يوم لتقلص أثر المجاعة وتطيل قدرة المدنيين على الصمود.
والأرقام الموثقة عن 550 ألف طن وأكثر من ألف طائرة ومئات الإسقاطات الجوية وآلاف الجرحى الذين وصلوا لتلقي العلاج في مصر، تُجسد هذا الدور بعيدًا عن اللغة الإنشائية، إلى جانب اللوجستيات، لعبت القاهرة دور الوسيط في الهدن المؤقتة وفتح النوافذ الإنسانية ومنها ترتيبات فتح رفح جزئيًا مطلع فبراير 2025 لإدخال الحالات الطبية وهو ما ظهر في موجات متتالية من الإدخال.
هذه الهندسة الدبلوماسية ليست ترفًا إذ تكشف تقارير الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة أن كثافة الإمداد لا تتحول تلقائيًا إلى كثافة وصول من دون ممراتٍ آمنة وإذن مُعلن ووضع ميداني مستقر وفي هذا السياق يبدو الجهد المصري كمن يُمسك بطرفي المعادلة وهي تجهيز التدفق وتشغيله، والتفاوض على نوافذ العبور.