سوريا ساحة المرتزقة ..

جماعة "فاغنر" عقدت صفقات مع النظام السوري للسيطرة على 25% من إنتاج الغاز والنفط مقابل رعاية عسكرية

أخبار مصر

سوريا
سوريا

من شظايا الحرب السورية، التي انطلقت بين المدنيين والمعارضة عام 2011، ارتفعت على مدى السنوات فكرة جديدة باتت تُغذي صراعات أطراف محلية ودولية مرتزقة محترفون، مدفوعون بمبدأ، من يدفع أكثر يسطو أكثر، يأخذون دورًا مركزيًا في إخضاع رقعة من الأرض السورية الممتدة من تدمر إلى إدلب، ومن دير الزور إلى ريف دمشق، هؤلاء لم يكونوا فقط أدوات عسكرية، بل محاور استراتيجية استخدمها النظام والإيرانيون والأتراك والأمريكيون وحتى اللاعبين الصغار مثل روسيا، لتحقيق مكاسب مالية وسياسية عبر الحروب بالنيابة.

 

من بين أبرز القوى التي تركت بصمة دامغة في المشهد السوري، برزت مجموعة "فاغنر" الروسية، التي تطور مصدرها إلى تحالف شبه حكومي وخاص وبدأت ظهورهما في أواخر 2015، وشنت هجمات كبرى لتحرير تدمر ودعم قوات النظام، في حين كان القتل العشوائي جزءًا من أدواتهم لإرهاب الأعداء.

 

وهناك تقارير مثل تلك الصادرة عن الاتحاد الأميركي للشؤون الدولية، فقد كشفت كيف أن تلك الشركة الانتقالية تحولت إلى إمبراطورية تمتلك آلاف المقاتلين ومشاريع نفطية وفوسفاتية داخل الأراضي السورية، تتقاسم نسب إنتاج تدر عليها الملايين شهريًا .

 

لكن الدم لم يكن رخيصًا، فحسب أحد عناصر فاغنر، فإن حصيلة قتلاهم في سوريا وحدها تجاوزت مئات، بينما أُصيب الآلاف، رغم كل ذلك، ظلت دمشق الرسمية تتجاهل وجودهم، وكأنها تقول للعالم، ما أنتم إلا شبح طيف من الجنود المظهر الخفي لصراع خطير.

 

قصة المرتزقة الروس في سوريا لم تبدأ بفاغنر، بل بجذور تاريخية تمتد إلى السلافونيك كوربس الصادرة تأسيسها عام 2012 كذراع مبكرة، حاولت حماية خطوط نفط وغاز في دير الزور، بعد فشل ذلك المشروع وتسليط الضوء عليه من قبل موسكو، انبثقت فاغنر كنسخة أكثر عنفًا وتنظيمًا، وظهرت داخل سوريا مجموعات قتالية مثل صائدي داعش، وهي وحدة خاصة تأسست عام 2017 تحت مظلة فاغنر، مهمتها الحرب بلا رحمة ضد تنظيم داعش، ضمن ما سمي بـ "الضربات الدقيقة والتدمير الهمجي"  واليوم، ومع انهيار داعش، لا زالت هذه الجماعات الفنية تلمع معاركها.

 

وليس كل المرتزقة في سوريا من الغرب أو روسيا، فقد نشطت شركات مرتزقة إسلامية، مثل "ملحمة تاكتيكال"  التابعة لجماعات المعارضة السلفية، والتي أعيد تسميتها لاحقًا باسم "سودات التركي" عندما نشطت بعد سوريا في دول غرب إفريقيا في النيجر ومالي واعتبرت تلك الشركة "بلاك ووتر الجهاد"، فقدمت التدريب العسكري والقتال لسلفيين بالأساس، لكن علاقتها بالدولة التركية أَعطتها شرعية نسبية في ساحة الحرب، قادتهم بعد ذلك إلى حراسة منشآت في إفريقيا، بل تعاونوا أحيانًا مع مرتزقة روس رغم تنافس أنقرة وموسكو في المسرح ذاته .

 

وخلال العقدين الماضيين، شهدت الميليشيات المحلية والدولية في سوريا مرحلة تحول من مجرد أدوات قتالية اقتصرت على تنفيذ عمليات محدودة، إلى شريك أساسي في التسويات والسوق السوداء وإعادة الإعمار، والخرائط الاقتصادية تقول إن الغاز والفوسفات والاتفاقات على الإعمار مر عليها المتعاقدون الخارجيون بمبالغ مخفية خلف الأغطية الرسمية.

 

وفي الأشهر الأخيرة وثق تحقيق لصحيفة فاينانشال تايمز تعاونًا صريحًا بين النظام السوري وبعض المقاتلين السابقين من هيئة تحرير الشام، ممن تم دمجهم في الفرقة 84 التابعة للجيش السوري، بينهم مقاتلون من أوزبك وشيشان وأفغان، مقابل حصولهم على جنسيات وامتيازات، كضوء أخضر من الإدارة الأميركية، وهذه الخطوة قام بها الجانب السوري لتقطيع شيفرة التطرف، لكنها أرسلت رسالة واضحة، بأن المرتزقة باتوا جزءًا شرعيًا من عملية إعادة بناء سوريا، وليس عبئًا غير مشروع.

 

لم تعد الحرب مجرد قتالات بالأسلحة، بل تسابقت فيها الحروب الاقتصادية، وبحسب تقارير مفصلة، دخلت "فاغنر" في صفقات مباشرة مع النظام السوري للسيطرة على 25% من إنتاج الغاز والنفط والفوسفات، مقابل رعاية عسكرية وضمانات نظامية، وهذه العقود أعادت تطويع الأموال القذرة لتغذية غطاء استقرار تروج له موسكو، خصوصًا مع وجود قواعد جوية وبحرية روسية في البحر المتوسط.

 

وفي ظل الحصار المفروض على سوريا، بات المتعاقدون ينهبون الموارد الطبيعية، ويربطونها بمشاريع إعادة الإعمار والمقاولات، مستفيدين من الفساد في النظام، وهم ليسوا وحدهم، فشركات تركية وإيرانية دخلت بنفس الطريق الملتوي، لتؤسس حضارات بناء تحت ركام المدن، بشروط مرتزقة ومقاتلين سابقين لديهم قدرة على اقتسام غنائم الحرب وخدمة خطوط النفوذ، وتجميل سلطة متسلطة.

 

وتحت عنوان الاقتصاد الحربي تختفي أسماء آلاف السوريين الذين سقطوا بدم بارد، وربما سيكتفون كحالات عديمة الاسم في سجلات الضحايا، ففي أحد مقاطع الرصد الإعلامي التي حصل عليها "نوفايا غازيتا"، ظهر عنصر من فاغنر وهو يضرب عسكريًا سوريًا هرب من صفوف النظام بمطرقة، ثم يقطع رأسه ويوثق ذلك الفيديو لنشر الخوف، ومثل هذه الجرائم لم تحقق فيها أي جهة عدالة دولية، ولا حتى موسكو، ولم يتجرأ المجتمع الدولي على محاسبة مرتكبيها.

 

ومع تغير موازين القوى الأخيرة، تراهن بشكل خاطئ دمشق على تقليص نفوذ المرتزقة الأجانب، مع الحفاظ على مجموعات خفيفة ذات خبرات قتالية، تُعبد الطريق لإعادة دورها الإقليمي، ولكن الخطوة الأخطر تكمن في احتمال صدام المرتزقة أنفسهم، فشركة فاغنر وقدرتها على تجنيد السوريين وإرسالهم إلى ليبيا وإفريقيا، يصطدم تدريجيًا بظهور مجموعات إسلامية تُمسك بالقرار العسكري في بعض المحافظات.

 

ومع اعتقال البعض كاعتقال سوريين فجأة لذرائع تهديد للأمن، بات الشارع السوري متشككًا، من يحارب من أجل الدولة؟ ومن يحارب من أجل جنسية أو راتب؟ وحتى من يحارب من أجل ولائه لحزب أو عصابة؟ بينما يتشظى النظام نفسه بين تفاهمات روسية وتركية ومقاولات اقتصادية.

 

سوريا اليوم ليست فقط ساحة لقوى دولية، بل منصة لتجار الحرب والمحترفين في قتل البشر، وأحيانًا لمحاولات إعادة صنع الدويلات بالإكراه، والصراخ الأكبر للأرض السورية لا ينبعث من طلقات البنادق فقط، بل من ضجيج العقد الاقتصادية التي تُختتم في ظلال القنابل.