مصطفى الروبى يتحدث عن .. ​الذكاء الاصطناعي والمشرِّع البشري: صراع أم شراكة في صياغة قوانين المستقبل

مقالات الرأي

بوابة الفجر

يشهد العالم اليوم لحظة فارقة في تاريخ القانون، فبينما كانت الثورة الصناعية سببًا في نشأة قوانين العمل والملكية الصناعية، تفرض الثورة الرقمية الآن واقعًا جديدًا تمامًا وهو "التشريع في عصر الذكاء الاصطناعي". لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد أداة تقنية، بل أصبح فاعلًا مؤثرًا في صياغة السياسات العامة ووضع القواعد القانونية. أمام هذا التحول، تتسابق الدول لصياغة تشريعات تنظّم العلاقة بين الإنسان والآلة، وتحفظ جوهر العدالة في ظل أنظمة قادرة على التفكير واتخاذ القرار.
و يشير د.مصطغى الروبى ​إلى أن  الساحة القانونية العالمية تشهد ولادة جيل جديد من التشريعات يهدف إلى ضبط الذكاء الاصطناعي، بدل تركه ليضبطنا هو، حيث أصبحت القوانين التقليدية قاصرة عن مواجهة القضايا التي يطرحها الذكاء الاصطناعي مثل المسؤولية القانونية، وحماية الخصوصية، وحقوق الملكية الفكرية الناتجة عن الإبداع الآلي، فضلًا عن أخلاقيات استخدام البيانات. لقد انتقلت التشريعات من مرحلة ردّ الفعل إلى مرحلة التشريع الاستباقي، وهي مقاربة باتت شرطًا للحفاظ على التوازن بين الابتكار والأمن القانوني، خاصة في المجالات التي يتقاطع فيها الذكاء الاصطناعي مع حياة الأفراد اليومية كالصحة، والتعليم، والاقتصاد الرقمي.
​وفي هذا السياق، يوضح أن أوروبا قدمت نموذجًا واضحًا لما يُعرف بـ"الحوكمة القانونية للذكاء الاصطناعي"، عبر قانون الاتحاد الأوروبي للذكاء الاصطناعي (EU AI Act)، الذي يُعد أول إطار تشريعي شامل من نوعه في العالم. يقوم هذا القانون على مبدأ تصنيف التطبيقات وفق درجة خطورتها، ويهدف إلى بناء ثقة قانونية في التكنولوجيا من خلال فرض معايير للشفافية والإفصاح. هذا التوجّه جعل أوروبا قوة معيارية في تنظيم التكنولوجيا، إذ بدأت دول كثيرة تتبنى ذات الفلسفة: لا بد أن تكون التقنية في خدمة الإنسان.
​وفي العالم العربي، اتخذت الإمارات العربية المتحدة خطوة سبّاقة نحو تشريع المستقبل عبر إطلاق منظومة تشريعية ذكية تستعين بالذكاء الاصطناعي في تطوير القوانين نفسها. تقوم هذه المنظومة على تحليل التشريعات القائمة ورصد أثرها، ثم اقتراح تعديلات تشريعية بناءً على النتائج، ما يفتح الباب أمام تساؤل: هل يمكن أن يصبح الذكاء الاصطناعي شريكًا في صناعة القوانين؟
ويضيف د.الروبى ​إن الانتقال إلى تشريعات رقمية ذكية يفرض تساؤلات عميقة حول الشفافية والمساءلة والإنسانية في القانون. يكمن الخطر الأول في "الصندوق الأسود" للخوارزميات، ما يطرح الحاجة إلى ما يُعرف بـ"التشريعات التفسيرية" التي تُلزم الأنظمة الذكية بشرح أسباب مخرجاتها. أما التحدي الثاني فهو المسؤولية القانونية؛ فإذا تسبب نظام ذكاء اصطناعي في ضرر، من يتحمل المسؤولية؟ وقد دفعت هذه المعضلة بعض الفقهاء لاقتراح فكرة "الشخصية القانونية للذكاء الاصطناعي"، إلا أن غالبية المختصين يرون أن هذا الطرح يهدد مبدأ سيادة الإنسان على القانون.
​ويؤكد الدكتور مصطفى الروبي أن القانون يجب أن يبقى نتاجًا إنسانيًا مهما بلغت عبقرية الآلة، لأن العدالة لا تُقاس بالكفاءة وحدها، بل بالإحساس والمسؤولية الأخلاقية. ويشير إلى أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون أداة مساعدة في صياغة التشريعات وتحليل آثارها، لكن لا يمكن أن يُفوّض إليه اتخاذ القرار التشريعي أو تفسير المبادئ القانونية العليا، لأن القيم التي يقوم عليها القانون — كالحرية والمساواة والعدالة — لا يمكن برمجتها بالكامل في خوارزمية. كما يوضح الدكتور الروبي أن التحول الرقمي في التشريع يحتاج إلى ضوابط تشريعية مضادة تحمي من الانزلاق إلى ما يسميه "الطغيان الخوارزمي"، ولذا يدعو إلى إنشاء هيئات رقابية مستقلة لمتابعة الأنظمة الذكية المستخدمة في صنع القرار التشريعي.
ويضيف الدكتور مصطفى الروبي ​المستقبل لا يدعونا إلى رفض الذكاء الاصطناعي، بل إلى تطويعه لخدمة العدالة، حيث يجب أن يكون القانون هو البوصلة التي توجه الابتكار. ويبدو أن الاتجاه العالمي يتجه نحو بناء تشريعات هجينة، تدمج دقة الذكاء الاصطناعي في تحليل البيانات مع حكمة المشرّع البشري في تقدير الأثر الإنساني. لقد دخلنا مرحلة جديدة يمكن تسميتها بـ"الذكاء التشريعي"، لكن نجاح هذا التحول مرهون بقدرة المشرّعين على وضع حوكمة أخلاقية تضمن بقاء الإنسان في مركز القرار. 
وخلاصة القول   يقول الدكتور مصطفى الروبي، أن السؤال الحقيقي ليس "هل سيكتب الذكاء الاصطناعي القوانين؟ بل هل سنحافظ نحن على إنسانية القانون وهو يكتب من جديد؟"، فالعدالة كانت وستظل — مهما تغيرت أدواتها — عملًا إنسانيًا بامتياز، لا يمكن أتمتته بالكامل، بل يمكن فقط إثراؤه بعقل رقميّ يخضع لضمير بشري واعٍ.