ماكرون من جامعة القاهرة: التعليم جسر الحضارات والشباب هم قاطرة المستقبل

أخبار مصر

الرئيس الفرنسي إيمانويل
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع وزير التعليم العالي

في مشهد يعكس عمق العلاقات التاريخية والثقافية بين مصر وفرنسا، شهدت قاعة الاحتفالات الكبرى بجامعة القاهرة واحدة من أهم الفعاليات الأكاديمية والدبلوماسية خلال العام، وذلك بتنظيم الملتقى المصري الفرنسي للتعليم العالي والبحث العلمي، بحضور الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي اختار أن يلتقي بصفوة من الأكاديميين والطلاب المصريين في قلب أعرق الجامعات المصرية، ليؤكد من جديد أن التعليم والمعرفة هما الجسر الأهم بين الشعوب.

الملتقى جاء تتويجًا لمسار طويل من التعاون الأكاديمي والعلمي بين البلدين، وعكس رغبة صادقة في تعزيز الشراكة الاستراتيجية بين المؤسسات التعليمية والبحثية المصرية والفرنسية، في إطار رؤية أوسع لبناء مستقبل قائم على التبادل المعرفي والتكنولوجي، والارتقاء بمستوى التعليم العالي بما يتماشى مع التحديات العالمية.

إلا أن ما أضفى على الحدث خصوصية بالغة، هو الكلمة المؤثرة التي ألقاها الرئيس ماكرون، والتي لم تخلُ من رسائل إنسانية وفكرية عميقة، وجّهها مباشرة إلى الشباب المصري، داعيًا إياهم إلى التمسك بالهوية والانفتاح في آن واحد، وإلى الإيمان بقدرتهم على الإبداع والتغيير في عالم سريع التحول. تحدث ماكرون عن التعليم بوصفه مفتاحًا للحرية والكرامة، وعن الجامعات باعتبارها الحصن الأخير للحقيقة في مواجهة التشكيك والتطرف والسطحية.

كما حرص الرئيس الفرنسي على تسليط الضوء على أهمية دعم الجامعة الفرنسية في مصر، وإعادة إطلاقها كمشروع إقليمي رائد يستوعب طلابًا من مختلف أنحاء القارة الأفريقية، لتكون نموذجًا للتعاون العابر للحدود، ومختبرًا حيًا للأفكار الجديدة التي من شأنها أن تغيّر مستقبل المنطقة بأسرها.

 عُقد الملتقي  بقاعة الاحتفالات الكبرى بجامعة القاهرة، بحضور رفيع المستوى ضم نخبة من مسؤولي البلدين في مجالي التعليم العالي والبحث العلمي، من بينهم الدكتور أيمن عاشور وزير التعليم العالي والبحث العلمي المصري، ونظيره الفرنسي، بالإضافة إلى قيادات وزارة التعليم العالي في مصر وفرنسا، ورؤساء الجامعات، وفي مقدمتهم الدكتور مصطفى رفعت أمي المجل الأعل للجامعا  والدكتور محمد سامي عبد الصادق نائب رئيس جامعة القاهر  إلى جانب حضور مكثف من الأكاديميين والطلاب.

وفي كلمته التي جاءت ضمن جدول زيارته الرسمية لمصر، شدد ماكرون على أهمية التعاون المصري الفرنسي في مجال التعليم العالي والبحث العلمي، معتبرًا أن هذه الشراكة تمثل ركيزة محورية لبناء مستقبل مشترك أكثر استدامة وابتكارًا، ومؤكدًا في الوقت ذاته على دور الشباب والجامعات في صياغة هذا المستقبل.

بدأ الرئيس الفرنسي كلمته بالإشادة بالشباب المصري، مشيرًا إلى أن مصر تمتلك ثروة بشرية استثنائية يجب الاستثمار فيها بعمق. وقال: "مصر بلد يتمتع بثروة بشرية هائلة؛ شاب من كل اثنين يقل عمره عن 25 عامًا. هذا يجعل الاستثمار في رأس المال البشري أمرًا بالغ الأهمية".

وأكد ماكرون أن الجامعات، خاصة تلك التي تقوم على شراكات دولية وتبادل ثقافي مثل الجامعة الفرنسية في مصر، تمثل حجر الزاوية في بناء هذا الاستثمار البشري. وأضاف: "الجامعات، وخاصة تلك التي تبني جسورًا بين الثقافات والمعارف مثل الجامعة الفرنسية في مصر، تلعب دورًا محوريًا في تقديم تعليم ذي جودة يواكب التطورات العالمية ويؤهل هؤلاء الشباب".

كما شدد على أهمية التوسع في البرامج الأكاديمية المشتركة بين الجامعات المصرية والفرنسية، مشيرًا إلى أن "زيادة عدد الجامعات التي تقدم شهادات مزدوجة، وإشراك القطاع الخاص الذي يؤمن بقدرات الشباب المصري، كلها عوامل أساسية لبناء جيل جديد من القادة والمبتكرين".

وفي سياق حديثه عن أوجه التعاون الثقافي، أكد ماكرون أن اللغة الفرنسية ليست مجرد أداة تواصل، بل هي جسر يربط الشعوب، ويحمل في طياته إرثًا إنسانيًا وثقافيًا غنيًا. وقال: "اللغة التي نتشاركها هي كنز لا يقدر بثمن. في مصر، نجد الكثيرين يستمعون للغة الفرنسية ويحبونها".

وأوضح أن الفرانكفونية، باعتبارها رابطة ثقافية وحضارية، تضم ملايين الناطقين بالفرنسية في مختلف أنحاء العالم، وتُعد منصة مهمة لتعزيز الحوار والتعاون. وأضاف: "نرى ذلك جليًا في جامعات مثل جامعة سنجور بالإسكندرية والجامعات الأعضاء في وكالة الفرانكفونية. هذا يسمح لمصر وفرنسا بأن تكونا في طليعة المشاريع الفرانكفونية، وهو ما يمكن أن يشمل تأهيل المعلمين باللغة الفرنسية ووضع الفرانكفونية في قلب ومركز تعاوننا".

وفي لحظة وصفها بالحاسمة، أعلن ماكرون أن الجامعة الفرنسية في مصر تدخل مرحلة جديدة ومهمة في مسيرتها، بفضل الدعم المتبادل من قيادتي البلدين. وأعرب عن امتنانه للرئيس عبد الفتاح السيسي على التزامه بإعادة إطلاق هذا المشروع، قائلًا: "بفضل الدعم المشترك والتعاون مع فخامة الرئيس السيسي، نحن نعيد إطلاق هذا المشروع الطموح. أتوجه بالشكر لكل من عمل عليه".

وكشف ماكرون عن خطط طموحة تتضمن استقبال 7000 طالب في الحرم الجامعي الجديد للجامعة الفرنسية، والذي سيُبنى وفقًا لأعلى معايير التصميم والاستدامة، لافتًا إلى أن الهدف لا يقتصر على الطلاب المصريين فقط، بل يشمل الطلاب من مختلف أنحاء القارة الأفريقية. وأوضح: "الأهم من ذلك، نطمح لأن تكون هذه الجامعة مركزًا ليس فقط للطلاب المصريين، بل للطلاب من جميع أنحاء القارة الأفريقية، مما يعزز دورها كجسر حقيقي للشراكة والمعرفة".

وفي كلمته الموجهة إلى الشباب المصري، تحدث ماكرون بلغة وجدانية عن أهمية الحفاظ على الهوية والانتماء في عالم سريع التغير. واستشهد بكلمات الكاتبة الفرنسية اللبنانية الأصل أندريه شديد: "اذهبوا، انطلقوا، ولكن لا تنسوا أنفسكم".

وأكد ماكرون أن الأجيال السابقة أخطأت حين اعتقدت أن النجاح يعني الانفصال عن الجذور، قائلًا: "لقد ارتكبت أجيال سابقة خطأ الاعتقاد بأن النجاح يتطلب الانسلاخ عن الجذور والأصول. هناك شكل من العولمة أو النخبوية العالمية الزائفة التي تبني نفسها بمعزل عن الواقع والأوطان. النجاح الحقيقي هو الذي يعود بالنفع على بلدك ومجتمعك. لا تنسوا من أين أتيتم".

وفي إشارة إلى الاضطرابات العالمية والتحديات غير المسبوقة التي يواجهها الشباب اليوم، أكد ماكرون أن الجامعات تظل هي المؤسسات الأكثر رسوخًا وعمقًا في التاريخ الإنساني. وقال: "أنتم تصلون إلى العالم في لحظة تحول كبرى. لم تعد الأمور ثابتة كما كانت. الجامعات هي الأماكن الأقدم والأكثر رسوخًا في مجتمعاتنا، حتى أقدم من مقرات الحكم".

وأضاف: "إنها حافظة المعرفة والفكر التي سمحت لنا بالتقدم عبر العصور. لذا، أحبوا جامعاتكم، فهي المراسي التي تمنحكم القدرة على فهم العالم وبناء علاقة حقيقية مع الحقيقة من خلال المعرفة وخدمة الآخرين".

وحث الشباب على الجمع بين التحصيل العلمي والابتكار، قائلًا: "عليكم بالدراسة والتعلم المستمر، ولكن أيضًا بالابتكار والإبداع وتنمية الحس النقدي. لا تكونوا مجرد مستهلكين لما ينتجه الآخرون في الصين أو أي مكان آخر. المستقبل يُصنع بأيدي المبتكرين والمبدعين".

وتطرق الرئيس الفرنسي إلى التحديات الفكرية التي تواجه الجيل الجديد، محذرًا من موجات التشكيك في الحقائق الأساسية وانتشار الأيديولوجيات المعادية للعلم والمعرفة. وقال: "ما يقلقني هو عالم تنقلب فيه القيم، حيث حتى الديمقراطيات العريقة قد تتراجع. عالم تنتشر فيه الأيديولوجيات التي تحاول طمس المعرفة أو تقييدها، وعالم يسوده التشكيك في كل شيء حتى الحقائق الأساسية (نسبية المعرفة، هل الأرض مسطحة أم كروية؟)".

وأضاف: "السبيل لمقاومة ذلك هو التمسك بالبحث عن الحقيقة والمعرفة الحرة. الجامعات لا تخدم مصالح ضيقة، بل تخدم الحقيقة والإنسانية. يجب أن يكون لديكم العقل النقدي الذي يمكنكم من الشك، الفهم، الاختيار بحرية، وعدم الوقوع كعبيد لأي أيديولوجية. يجب أن يكون الوصول للمعرفة متاحًا للجميع".

وفي ختام كلمته، وجه ماكرون رسالة مباشرة ومُلهمة للطلاب المصريين، قائلًا: "قاوموا، ابتكروا، تعلموا بلا كلل. السلطة الحقيقية هي القدرة على التجدد والنهوض، وهذه هي السلطة التي يجب أن تحترموها. راكموا المعرفة لتكونوا أحرارًا في اختياراتكم. ازرعوا في أنفسكم الشك البناء والبحث الدؤوب عن الحقيقة. سافروا وتعلموا من العالم، ولكن لا تنسوا أبدًا جذوركم. هكذا ستكونون قاطرة التقدم لجيلكم ولبلادكم".