أحمد عبد الوهاب يكتب: مزيد من "العباقرة".. مزيد من "قطايف"

في زمنٍ أصبحت فيه السطحية تهيمن على كثير من المحتوى الإعلامي، وانتشرت برامج لا تقدم سوى الترفيه الفارغ، بل وتتضمن أحيانًا ألفاظًا ومشاهد لا تتناسب مع الذوق العام والقيم المجتمعية، تزداد الحاجة إلى إعلام أكثر توازنًا، يجمع بين المتعة والفائدة، ويسهم في بناء جيل أكثر وعيًا وثقافةً.
وسط هذا الانتشار الواسع للمحتوى التافه على وسائل التواصل الاجتماعي، جاءت برامج مثل "العباقرة" و"قطايف" لتثبت أن الجمهور العربي والمصري لا يزال متعطشًا لمحتوى يثري فكره، ويحفزه على التفكير، محتوى يتجاوز حدود التسلية ليؤدي دوره الحقيقي في تنمية العقول
وصياغة المستقبل.
"العباقرة"... متعة المعرفة والتحدي
منذ انطلاقه، استطاع برنامج العباقرة بقيادة الروائي عصام يوسف أن يخلق نموذجًا فريدًا في عالم المسابقات الثقافية. فهو لا يعتمد فقط على طرح الأسئلة والمعلومات، بل يحفّز التفكير وسرعة البديهة لدى المتسابقين والمشاهدين على حد سواء.

ورغم أن البرنامج يخاطب فئة الطلاب بالأساس، إلا أنه تجاوز حدود المدارس ليستضيف كذلك أسرًا مصرية أصيلة ليصبح ظاهرة مجتمعية، حيث يتابعه مختلف الفئات العمرية. كما إن بعض المدارس أصبحت تعتمد عليه كنشاط تحفيزي للطلاب، مما يعزز دوره في ترسيخ أهمية المعرفة في الحياة اليومية. والأهم من ذلك، أن البرنامج يقدم المعرفة بأسلوب مشوق وجذاب، بعيدًا عن التلقين التقليدي، مما يجعله تجربة تعليمية ثقافية ممتعة تثري العقول وتكرّس قيمة الثقافة في الإعلام.
"قطايف"... حين تمتزج الحكمة بالبساطة
أما برنامج قطايف، فقد نجح في لفت الأنظار بأسلوبه المختلف البسيط.

جاء الفنان سامح حسين، بخفة ظله وصدقه، ليقدّم محتوى يجمع بين الثقافة والموعظة الدينية والاجتماعية في قالب محبب للجميع.
ما يميز "قطايف" أنه لا يكتفي بطرح القضايا الاجتماعية، بل يعيد تشكيل المفاهيم حولها بأسلوب سلس. على سبيل المثال، تناول البرنامج قضية الهوس بـ "الحسد" بمنظور مختلف، يبتعد عن المبالغات التي لا تستند إلى حقائق دينية، ويعيد التذكير بالمفهوم الصحيح للحماية والتوكل. كما ناقش انتشار ثقافة " الولد الفاسد بتاع البنات" الباد بوي bad boy" كنموذج خاطئ يُسوّق للشباب، مقابل تقديم بدائل إيجابية تعزز قيمة الاحترام والعلاقات الصحية بين الشباب كما تربينا عليها في مجتماعاتنا الشرقية. ثم حلقته في الإصلاح بين الأزواج بمقولته الجميلة " ابحث عن شيء جميل فيها أو فيه"، مما يجعله يسهم في علاج قضايا اجتماعية مثل المشاكل الأسرية، على عكس العديد من المسلسلات التي تكرس الانقسامات تحت مسمى الدراما بدلًا من تقديم الحلول.
إذن هذا النوع من البرامج لا يهدف فقط إلى التسلية، بل يسهم في تصحيح المفاهيم بأسلوب قريب من الناس، بعيدًا عن الوعظ المباشر أو الطرح الجاف.
نحو إعلام يعكس المجتمع بواقعية
ما يجعل العباقرة وقطايف أكثر تأثيرًا هو قدرتهما على تقديم صورة حقيقية للمجتمع المصري، بعيدًا عن النماذج المشوّهة التي تروجها بعض الأعمال الدرامية، والتي تحصر المجتمع بين صورتين متطرفتين: إما طبقة أرستقراطية فاحشة الثراء منحرفة الطِباع، أو مجتمع شعبي يسوده العنف والبلطجة.
لكن في العباقرة، نرى أسرًا مصرية أصيلة، وطلابًا من مختلف المحافظات والخلفيات الاجتماعية، مما يعكس التنوّع الحقيقي للمجتمع المصري. كما أن البرنامج يسلط الضوء على المدارس الحكومية والخاصة على حد سواء، ليؤكد أن الذكاء والمعرفة ليسا حكرًا على فئة دون أخرى.
أما في قطايف، فنجد نموذجًا للمصري البسيط الذي يخاطب الناس بلغتهم، دون استعلاء أو تصنّع، في وقت أصبح فيه بعض النجوم مشغولين بتسويق أنفسهم كـ "نمبر ون" أو "الأسطورة" الذي لا يرى غير نفسه في مجاله، وليت تلك النجوم الوهمية قدموا شيئا نافعا لبلدهم أو حتى للقرى التي أتو منها بل على العكس بعضهم تبرأ من أصله وكأنه ولِدَ نجمًا.
"قطايف"... قصة نجاح لم تكن متوقعة
رغم أن بعض القنوات رفضت عرض قطايف، ورغم غياب الحملات الترويجية، إلا أن البرنامج استطاع أن يحقق نسب مشاهدة مرتفعة، متفوقًا على برامج أُنفقت عليها ملايين الجنيهات. نجاحه لم يكن مجرد صدفة، بل جاء نتيجة لصدق المحتوى وقوته وتأثيره في الناس. ولعل أجمل ما قيل عن البرنامج، ما ذكره سامح حسين نفسه: "عملنا البرنامج لوجه الله، فكان النجاح من الله". سبحان من يلقي المحبة في قلوب عباده.
نحو إعلام أكثر توازنًا
إن النجاح الذي حققه العباقرة وقطايف ليس مجرد نجاح لبرنامجين، بل هو مؤشر على أن الجمهور المصري والعربي لا يزال يبحث عن محتوى جاد وهادف، لكنه في كثير من الأحيان لا يجده وسط زحام الترفيه السطحي.
وهنا يأتي دور القنوات الفضائية والمؤسسات الإعلامية في تحمّل مسؤوليتها، ليس فقط بإنتاج المزيد من البرامج الهادفة، ولكن أيضًا بمواكبة العصر الرقمي بطريقة تحافظ على جودة المضمون. وربما يكونمن الحلول كذلك دعم المبادرات الإعلامية المستقلة، التي تثبت يومًا بعد يوم أن الجودة لا تحتاج إلى ميزانيات ضخمة بقدر ما تحتاج إلى رؤية صادقة وهدف نبيل.
دور الجمهور
كما أن للجمهور الواعي دورًا محوريًا في نشر البرامج النافعة، حيث نرى في قطايف أن المشاهدين أنفسهم أصبحوا سفراء له، ينشرون مقاطعه، يناقشون أفكاره، ويرون فيه مساحة نادرة لمحتوى يحترم عقل المتلقي. وهذه رسالة واضحة بأن مسؤولية دعم البرامج الهادفة لا تقع فقط على عاتق المؤسسات الإعلامية، بل على المشاهدين أيضًا، من خلال الاستمرار في دعم المحتوى الجاد، نشره، والتفاعل معه، بدلًا من الانجراف وراء المحتوى السطحي الذي لا يضيف إلى وعيهم شيئًا.
رسالة للجميع
الدول المتقدمة أدركت أن بناء المستقبل يبدأ من الاستثمار في العقول، ونشر العلم، وتعزيز القيم الإيجابية. ونحن بدورنا، علينا أن ندرك أن الطريق نحو غدٍ أفضل يبدأ من هنا: بمزيد من "العباقرة"، ومزيد من "قطايف".