ذكرى ظلام كيبيك العظيم.. هل يمكن أن يتكرر مجددًا

يُعرف يوم 13 مارس 1989 بأنه اليوم الذي جلبت فيه الشمس الظلام، حيث ضرب انبعاث كتلي إكليلي قوي – وهو سحابة ضخمة من الغاز المتأين – المجال المغناطيسي للأرض. بعد 90 ثانية فقط من وصول هذا الانبعاث، انهارت شبكة الطاقة في مؤسسة "هيدرو كيبيك" لتوليد الكهرباء، مما أدى إلى انقطاع التيار الكهربائي لمدة 9 ساعات، وترك ملايين السكان في مقاطعة كيبيك الكندية دون ضوء أو حرارة.
كانت هذه أكبر عاصفة جيومغناطيسية شهدها عصر الفضاء، وأصبحت حادثة مارس 1989 مثالًا رئيسيًا لفهم كيف يمكن للنشاط الشمسي أن يؤدي إلى انهيار شبكات الكهرباء.
تحذيرات من الماضي: عاصفة كارينغتون 1859
قد يبدو من الصعب تصديق ذلك اليوم، ولكن في عام 1989، كان عدد قليل فقط من العلماء يدركون أن العواصف الشمسية يمكن أن تسبب انهيار شبكات الكهرباء. ومع ذلك، لم تكن هذه الظاهرة جديدة، فقد سجلت تحذيرات مماثلة منذ أكثر من قرن.
في سبتمبر 1859، وقع أكبر توهج شمسي معروف في التاريخ، وعُرف بـحادثة كارينغتون، حيث تسبب انبعاث كتلي إكليلي هائل في ضرب المجال المغناطيسي للأرض، مما أدى إلى عاصفة جيومغناطيسية أقوى من عاصفة 1989 بمرتين. آنذاك، لم تكن هناك شبكات كهرباء، لكن التيارات الكهربائية الناتجة تدفقت عبر أسلاك التلغراف، مسببة شرارات كهربائية وحرائق في مكاتب التلغراف في العصر الفيكتوري.
العلماء اليوم يربطون هذه الحوادث ببعضها، حيث أن التيارات الكهربائية التي تسببت في حرائق التلغراف في 1859، هي نفسها التي تسببت في انهيار شبكة الكهرباء في كيبيك عام 1989.
كيف تسببت الشمس في إظلام كيبيك؟
عندما يتغير المجال المغناطيسي بسرعة ذهابًا وإيابًا، فإن ذلك يؤدي إلى تدفق تيارات كهربائية عبر أي موصلات موجودة في المنطقة، وهذه الظاهرة تُعرف باسم "الحث المغناطيسي".
العواصف الجيومغناطيسية، مثل تلك التي حدثت في مارس 1989، تؤثر على الأرض بهذه الطريقة، حيث يمكن للصخور والتربة أن تعمل كموصلات كهربائية. وعندما يضرب انبعاث كتلي إكليلي قوي المجال المغناطيسي للأرض، تبدأ التيارات الكهربائية في التدفق عبر الأرض تحت أقدامنا.
كانت مقاطعة كيبيك معرضة للخطر بشكل خاص، لأنها تقع فوق صخور نارية قديمة تعود إلى عصر ما قبل الكمبري، وهي ضعيفة التوصيل للكهرباء.
ونتيجة لذلك، عندما وصل الانبعاث الكتلي الإكليلي يوم 13 مارس، لم تستطع الأرض امتصاص التيارات الكهربائية، فانتقلت التيارات إلى خطوط النقل عالية الجهد الخاصة بمؤسسة "هيدرو كيبيك"، مما تسبب في ارتفاع حرارة المحولات واضطراب القواطع الكهربائية، وأدى إلى انهيار شبكة الطاقة بالكامل.
آثار العاصفة الجيومغناطيسية
بعد اجتياح الظلام لمقاطعة كيبيك، انتشر الشفق القطبي جنوبًا، ووصل إلى مناطق لم تكن معتادة على رؤيته، مثل فلوريدا، تكساس، وكوبا.
اعتقد البعض أنهم يشهدون انفجارًا نوويًا، بينما ظن آخرون أن الحدث مرتبط بإطلاق مكوك الفضاء STS-29، الذي انطلق في نفس اليوم.
أما رواد الفضاء، فقد كانوا بخير ولم يتأثروا مباشرة، لكن المكوك الفضائي واجه مشكلة غامضة في مستشعر خلية الوقود، مما هدد بإلغاء المهمة. ومع ذلك، لم تربط وكالة ناسا رسميًا هذا العطل بالعاصفة الشمسية.
اكتشافات علمية جديدة حول الحادثة
لا تزال هناك الكثير من الأسرار حول عاصفة مارس 1989، فقد وقعت قبل أن تبدأ الأقمار الصناعية الحديثة في رصد الشمس على مدار الساعة.
عند فحص السجلات القديمة للانبعاثات الراديوية والمخططات المغناطيسية، توصل العلماء إلى مفاجأة غير متوقعة:
وتبين أن البقعة الشمسية التي تسببت في عاصفة 1989 لم تطلق انبعاثًا إكليليًا واحدًا فقط، بل اثنين متتالين، وهذا يفسر لماذا كانت العاصفة أقوى من المتوقع.
في الأيام التي سبقت الحادثة، كانت تلك البقعة الشمسية واحدة من أكثر المجموعات الشمسية نشاطًا على الإطلاق، حيث أنتجت أكثر من 10 توهجات شمسية قوية من الفئة (M) المتوسطة و(X) القوية.
اثنان من هذه التوهجات كانا الأقوى:
توهج X4.5 يوم 10 مارس
توهج M7.3 يوم 12 مارس
وأدت الانبعاث الأولى إلى تهيئة المجال المغناطيسي الأرضي، مما سمح للانبعاث الثاني بأن يضرب بقوة غير عادية، وبالتالي انطفأت الأنوار في كيبيك بعد دقائق فقط من وصوله.
دروس مستفادة وتحسينات في شبكات الكهرباء
ساهمت حادثة مارس 1989 في إطلاق سلسلة من المؤتمرات والدراسات الهندسية لتحصين الشبكات الكهربائية ضد العواصف الشمسية المستقبلية.
تم إحراز تقدم كبير، حيث أن الشبكات الكهربائية الحديثة مصممة الآن لتحمل عاصفة جيومغناطيسية بمعدل "واحد في 100 عام".
بالمقارنة، كانت عاصفة 1989 مجرد حدث "واحد في 40 إلى 50 عامًا"، أي ضمن المواصفات الحالية لتصميم الشبكات الحديثة.
دور توقعات الطقس الفضائي
أصبح لدى العالم الآن وعي تشغيلي متقدم، حيث تصدر الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي (NOAA) توقعات الطقس الفضائي، مما يسمح للمشغلين بالاستعداد مسبقًا.
في حال اقتراب عاصفة جيومغناطيسية قوية، يتم تنفيذ إجراءات خاصة مثل:
- تقليل نقل الطاقة الكبيرة
- إيقاف المعدات الحساسة مؤقتًا
- ضبط إعدادات الشبكة لحمايتها من الانهيار
هل يمكن أن تتكرر حادثة كيبيك؟
نعم، يمكن أن تتكرر عاصفة جيومغناطيسية مشابهة يومًا ما، لكن بفضل التقدم العلمي، لن تؤدي إلى ظلام شامل كما حدث في 1989، بل ستوفر لنا عروضًا مبهرة من الشفق القطبي في أماكن غير معتادة.