عادل حمودة يكتب: كتاب أعاده ترامب إلى المكتبات

مقالات الرأي

الأستاذ عادل حمودة
الأستاذ عادل حمودة

عقيدة الغطرسة

«أنت مش عارف أنا مين؟».. جملة أشعلت الحروب وفتحت أبواب

السجون وأصابت حكومات بالفشل

لا أحد يقبل النقد حتى دعاة الحرية  هبط الإنسان على سطح القمر ولكنه احتفظ بعجرفة العصر الحجرى

فى نشوة التمكن من الشهرة أو السلطة أو الثروة يشعر البشر بأنهم أنصاف آلهة.. إلا قليلًا.

يتصورون أنهم «فوق الجميع».

لكنهم فى الحقيقة مرضى بداء «الغطرسة».

أخطر ما يصيب النجوم والقادة والحكام والعلماء ورجال الأعمال.

يشعرون بأنهم مفوضون من السماء لتنفيذ مهام كلفهم بها الله على الأرض لا يقدر عليها سواهم وكأنهم خلقوا من طينة أخرى غير طينة إنسانية حتى يلقوا مصيرا يجهز عليهم.

ما إن استولى «نابليون» على «بافاريا» عام ١٨١١ حتى أعلن أنه صار «سيد الكون» لكنه نفى إلى جزيرة «ألبا» الإيطالية بعد أربع سنوات فقط.

وفى ذروة نجاح فريق «البيتلز» عام ١٩٦٦ أعلن نجمها «جون لينون»: «نحن نحظى بشعبية أكبر من المسيح».

على الفور قاطعت محطات الإذاعة الأمريكية أسطوانات «البيتلز» ونظمت عملية حرقها ورغم اعتذار «جون لينون» فإن طوفان رسائل الكراهية لم ينته وظهرت تهديدات بالقتل حتى اضطر أربعمائة شرطى إلى حماية الفريق عند إقامتهم حفلا فى مدينة «بوسطن».

وكثيرا ما تدفع الشركات الناجحة ثمن غرور إداراتها.

اغترت شركة «زيروكس» منتجة آلات تصوير المستندات بعد أن بلغت ذروة نجاحها فى عام ١٩٦٩ بمبيعات تجاوزت المليار دولار.

هنا تفاخر المديرون التنفيذيون فى اجتماعات المساهمين وقرروا أن يشتروا شركة «آى بى أم» دون أن يلتفتوا إلى تحذيرات الخبراء.

بالغطرسة أهدرت «زيروكس» مليار دولار وفى غضون خمس سنوات انهارت بعد أن فشلت فى منافسة «ميكروسوفت» و«آبل».

وتعد الحملة الصليبية السابعة على مصر دليلا على غطرسة «روبرت دى أرتوا» شقيق ملك فرنسا لويس السابع عشر.

كان «دى أرتوا» قائدا عسكريا عنيدا وغير منضبط وينسب الفضل لنفسه دائما وعند شن الهجوم على مدينة المنصورة لم ينتظر قوات شقيقه الذى فقد ثلث سلاح الفرسان فى ضربة واحدة وحاصر المصريون الصليبيين وأسر الملك.

فيما قبل عندما سيطر الإسكندر الأكبر على بلاد فارس فوجئ بأهلها يسجدون لحكامهم فقرر أن يسجد له قواده ولم يتردد فى قتل من رفض السجود منهم وتلقى النهاية المتوقعة بعد سنوات قليلة بعجزه عن التحكم فى الدول التى احتلها.

هناك أمثلة أخرى يتناولها الكاتب الفنلندى «آرى تورنين» فى كتابه الممتع المثير «تاريخ الغطرسة» الذى ترجمته الدكتورة «سمر منير» ونشرته دار «العربى» فى القاهرة.

لكن الطبعات الأوروبية والأمريكية من الكتاب أعادت لتتصدر وجهات المكتبات بعد شهر واحد من عودة دونالد ترامب للبيت الأبيض.

إنه يتصرف من دماغه ويقرر ما يخطر على باله ويتصور أن على الدنيا طاعته، وبقلم «الفلوماستر»، الذى يوقع به قراراته يتصور أنه يمكن أن يشطب دولًا من خريطة العالم ويقضى على مؤسسات راسخة بل ويعتقد أنه أقوى من الدستور.

هناك أمثله يسهل الوصول إليها نعيشها أو نسمع عنها كل ساعة.

«انت مش عارف أنا مين؟».

أليست هذه جملة شائعة متعالية ينطقها أصحاب النفوذ أو ذووهم إذا ما وجدوا أنفسهم وجها لوجه أمام منفذى القانون؟

بل من المؤكد أن الأحداث الجنائية التى تكثر فى الساحل الشمالى من مشاجرات وتهديدات ورصاصات وراءها شعور الجناة بالغطرسة أو العجرفة أو الغرور أو التكبر أو الاستعلاء أو جمود الشخصية أو جنون العظمة.

حسب الكتاب: يعتقد المحللون النفسيون أن «المتكبرين يخجلون من أمهاتهم الفقيرات».

ما إن فاز عالم الفيزياء الأمريكى «مورى جيلمان» بجائزة «نوبل» عام ١٩٦٩ حتى وصف من يحيطون به بأنهم «أقزام».

نسى أصل نشأته وأصدقاءه القدامى ورسخ وجوده فى بيئته الجديدة بالاستعلاء.

تكررت الحالة نفسها مع «برتراند راسل» الحائز على جائزة نوبل فى الأدب عام ١٩٥٠.

قال لحبيبته: «أنه يشعر أنه يتحدث لغة الأطفال الرضع عندما يتحدث مع الناس العاديين».

فى خطاب ألقاه «ماو تسى تونج» عام ١٩٥٨ أعلن: أنه يمكن التضحية بنصف الصينيين فى سبيل الأيديولوجيا (الشيوعية) والدولة».

وقتل «جينكيز خان» ما بين ٣٠ و٤٠ مليونا حتى يبنى إمبراطوريته ويرى الدموع فى عيون الأسرى ويمتطى خيولهم وتصير زوجاتهم وبناتهم ملكا ليمينه.

وكشف «نابليون» لوزير خارجية النمسا «ميترنيش» أنه «لا صعوبة لديه فى أن يضحى بمليون جندى فرنسى فى سبيل الفوز بالحرب».

وأودى «جوزيف ستالين» بحياة ثلاثين مليون روسى قائلا: «إن موت فرد واحد يعد مأساة أما موت الملايين مجرد إحصائية».

لا أحد منهم يؤلمه ضميره بما قتل.

بل لا أحد منهم راجع قراراته غير المتوقعة التى أجبر الناس على تنفيذها.

فرض قيصر روسيا «بطرس الأكبر» على الرجال أن «يحلقوا ذقونهم» وحرم عليهم ارتداء الملابس ذات الطابع الشرقي.

قرر «ماو» إبادة جميع العصافير فى الصين من أجل الحفاظ على محاصيل الحبوب لكن ما إن قتل العصافير حتى بدأت التربة تعانى من الآفات واضطر فى نهاية المطاف أن يستورد من الاتحاد السوفيتى مئة ألف عصفورة.

وحاول «ماو» أن يقضى على الثقافة القديمة بتدمير ما يقترب من أربعة آلاف مبنى تاريخى فى بكين إبان الثورة الثقافية.

لكن أغرب نهاية لمصاب بالغطرسة كانت من نصيب الملك الإسبانى «فيليب الثاني» الذى لقى حتفه محترقا أمام مدفأته لأن أفراد حاشيته لم يتمكنوا من العثور على الموظف المسئول عن زحزحة كرسى الملك بالسرعة الكافية.

على أن استخفاف «تونى بلير» رئيس الحكومة البريطانية الأسبق بالرأى العام جعل «ديفيد أوين» الدبلوماسى السابق فى الخارجية البريطانية ينشغل بالتفكير فى العلاقة السببية بين السلطة والمرض.

عمل «أوين» طبيبا نفسيا قبل أن ينتقل إلى العمل السياسى ليصبح زعيما للحزب الديمقراطى الاجتماعى ثم وزيرا للخارجية وأنعم عليه بلقب لورد.

بعد فحص شامل للأمراض العقلية والأزمات القلبية التى أصابت حكاما مثل «ستالين» و«ماو» و«القذافى» استنتج «أوين» أنهم يعانون من أن متلازمة «هوبريس» التى تجمع بين السلطة والغطرسة.

أثبت «أوين» تأثير الحالة العقلية والجسدية على صانعى عليهم وعلى غيرهم.

أصيب «جون كيندى» بمرض أديسون وآلام فى الظهر تسببت فى تناول مسكنات ومنبهات أدت إلى اتخاذه قرارات خاطئة كما حدث فى أزمة «ممر الخنازير» التى بدأت بمحاولة الإطاحة بالنظام الكوبى الذى يمثله «فيديل كاسترو».

وعانى «ليندون جونسون» من هوس الاكتئاب (ثنائى القطب) ظهرت نتائجه فى حرب فيتنام التى انتهت بهزيمة بلاده.

وأفرط «ريتشارد نيكسون» فى تناول الكحوليات لعلاج القلق والاكتئاب وانتهى بتقديم استقالته بعد أن وافق على زرع ميكروفونات فى مقر الحزب المعارض فيما عرف بفضيحة «ووتر جيت».

أما «جورج دبليو بوش» و«تونى بلير» فإن قرارهما بالهجوم على العراق مثال بارز على عدم الإنصات للآخرين وعدم الاكتراث بآراء الخبراء».

إنهما «يتسمان بثلاث صفات سلبية: الثقة المفرطة فى النفس والقلق والاهتمام المتدنى بالتفاصيل».

اعتبرت فترة رئاسة «بوش» واحدة من أسوأ فترات الرئاسة فى كافة العصور وانخفضت شعبية «بلير» إلى الربع تقريبا مما دفعه للاستقالة.

تمتد متلازمة «هوبريس» إلى الأثرياء أيضا.

لسنوات طوال احتدمت المنافسة بين «لارى إليسون» مؤسس شركة «أوراكل» للبرمجيات و«بول إلين» مؤسس شركة مايكروسوفت على لقب مالك أكبر يخت فى العالم.

كان المفروض أن يبلغ طول يخت إليسون «واسمه رايزنج صن» ١٢٠ مترا لكنه عندما علم أن طول يخت إلين «واسمه أكتوبوس» ١١٨ مترا أمر ببناء سفينته الخاصة التى يبلغ طولها ١٨٠ مترا.

لكن بسبب عجرفة إليسون لم يجد مكانا مناسبا فى موانئ القوارب التى يملكها الأثرياء ولم يجد أمامه سوى أن يرسو بقاربه بين الناقلات وسفن الشحن.

يتعلق الأمر أحيانا بأشياء تافهة.

اشتهر الرئيس الفنلندى «أورهو ككونن» فى الستينيات بصيد الأسماك والتزلج بسرعة فائقة على الجليد.

نافسه فى حب الظهور «بيكا هارلين» المدير التنفيذى لشركة «كون» أكبر الشركات المصنعة للمصاعد فى العالم.

تبارى الرجلان فى رحلة تزلج.

شعر «هارلين» بعذاب لم يجرؤ على الكشف عنه إذ كان من الضرورى أن يظل «ككونن» هو الأول فى بداية المسار ونهايته.

لكن فى رحلة التزلج التى حدثت عام ١٠٦٣ لم يلتزم «هارلين» بذلك حيث سبق الرئيس وذهب إلى كوخ استراحة المتزلجين على الجليد وبذلك تأكد أنه لن يتلقى دعوة تزلج أخرى مع الرئيس.

(كان يسعد مبارك أن يدعو شخصيات رياضية محترفة إلى مباريات إسكواش لكن لا أحد فكر فى هزيمته أما الملك فاروق فكان يدعو الأثرياء وطالبى الاستثناءات إلى لعب البوكر وأمام النشوة بالانتصار عليهم كان يستجيب لطالباتهم دون أن يفكر فى أنهم تعمدوا الخسارة.

(ولم يعترف مبارك بأنه تعامل باستخفاف مع رفض المعارضة لانتخابات مجلس الشعب الأخيرة فى عهده ودعوتها لتشكيل برلمان مواز جعله يسخر منهم قائلا: خليهم يتسلوا).

ومن قبل لم يعترف بوش وبلير بأخطائهما فى العراق.

وفيما بعد لن يعترف فلاديمير بوتين بخطأ حربه على أوكرانيا.

المؤكد أن «البشر ليسوا مثاليين لذلك يحتاج الجميع إلى آراء أخرى بجانب رأيهم».

و«الإنسان الذى يعتقد أنه على حق يعد أقل مصداقية من الإنسان الذى يقر بأنه مخطئ».

«وأعرب «جيوفانى ديلا كاسا» فى كتابه الصادر عام ١٥٥٨ عن السلوك المهذب عن أسفه من رغبة الناس المتطرفة فى أن يكونوا على حق دائما».

«الجميع يريد الفوز فى النقاشات ويخشى الهزيمة فى كل المبارزات المسلحة والكلامية».

«قدم ديلا كاسا نصيحة ذهبية مفادها أنه على الإنسان أن يعبر عن رأيه بتواضع ومرونة من أجل أن يحقق أهدافه».

فى دراسة أجراها «بول نات» فى جامعة «أوهايو» أن ثلث حالات الفشل يرجع إلى أن المديرين أفرطوا فى تمركزهم حول ذواتهم».

«لم يفكر ستون فى المئة منهم فى أية بدائل».

«نفذ أكثر من ثمانين فى المئة منهم قراراتهم إما انطلاقا من سلطتهم أو عن طرق اللجوء إلى أساليب الإقناع بغض النظر عن قيمة الأفكار فى حد ذاتها».

لا أحد منا لم يصب بالغرور يوما ولكن نسبة ضئيلة من البشر استردت تواضعها عندما دفعت الثمن أما الأغلبية فقد عاندت واستمرت فى غطرستها حتى كسرت رقبتها.

ساعتها قالت إن الله حق.

مؤلف الكتاب نفسه بدأ مقدمته منتفخا مثل الطاوس قائلا:

«ربما يكون هذا أفضل كتاب تطالعه على الإطلاق فهو يتماشى مع الحاضر بشكل مثير للدهشة كما أنه يضم حكما ويعد كتابا مسليا وبإمكانه أن يحول مساء يوم عادى إلى أمسية ساهرة ملهمة من شأنها أن تحرك أفكارك المتحجرة عن الثقافات والعالم بأسره».

بالطبع ضربة بداية ذكية مقصودة ليضع القارئ على أول الطريق الذى حدده لكتابه الذى هو فى الحقيقة دون غرور ممتع ومسل ويحرك الأفكار الخاطئة عن البشر والدنيا.

عندما بلغ المؤلف السادسة عشر من عمره أبلغ جده أنه عرف الكثير عن الحياة لكن رد فعل الجد لم يكن ودودا وأخذ يوبخه بطريقة لا يتقنها سوى رجل عمل فيما سبق فى التجارة واعتنق الفكر الشيوعى وشغل منصب رئيس مجلس إدارة «محبى الخمور المجهولين» فى مدينة هلسنكى.

قال الجد:

ــ يا صبى أنت لا تعرف شيئا بالأساس عن الحياة.

إن الخبرة تجعل الإنسان حكيما أليس كذلك؟

هل تغيرت أنت على مدار السنين؟

«حسنا إن الغطرسة لا تكترث بالسن».

«إن أصعب شىء أن يعرف الإنسان حدود قدراته وفى المقام الأول يعترف بها».

«كما أن نصائح الآخرين تعد مزعجة جدا منا قلة فقط هم من يتقبلونها دونما اعتراض وهو ما تظهره اختبارات نفسية عديدة أجريت على إبداع الناس وذكائهم ويمثل موضوع قبول الملاحظات مشكلة للجميع سواء كانوا كبارا أم صغارا».

«تعد الغطرسة دائما سوء تقدير من الإنسان فكم من أشخاص حكموا على الآخرين بناء على مظهرهم؟ وكم من أشخاص استنتجوا استنتاجات ما انطلاقا من وظيفة الآخرين أو تعليمهم أو مكانتهم فحسب؟ أو كم منهم لا يكترثون بالأساس بإلقاء التحية على من يقابلونهم؟».

«على الرغم من أن الإنسان هبط على سطح القمر وأجرى بحوثا على خارطته الجينية إلا أن طريقة تعاملنا مع بعضنا البعض لم تصبح أكثر تهذيبا من العصر الذى كنا نصطاد فيه الماموث (العصر الحجري) فالغطرسة هى أكثر المشاعر التى لا فائدة من وجودها إذا يعلمنا التاريخ أن الغطرسة لم تفرز شيئا سوى الحروب والكوارث والكراهية وعدد لا بأس به من حالات الفشل».

كثير من الشرور تأتى من الغطرسة.

أما التواضع فهو الحكمة بعينها.

آرى تورنين

الطبعات الأوروبية والأمريكية من الكتاب أعادت لتتصدر وجهات المكتبات بعد شهر واحد من عودة دونالد ترامب للبيت الأبيض


د. سمر منير