القاهرة.. جحيم أسمنتي وحلول تبريد ذكية

تقارير وحوارات

أرشيفية
أرشيفية

 

إذا كنت من سكان القاهرة، فمن المؤكد أنك شعرت بأنك داخل فرن مفتوح طوال فصل الصيف، فالحرارة الخانقة، والشوارع التي تشع نارًا، تدفعك للتساؤل: لماذا يبدو الجو هنا أكثر قسوة مقارنة بأي مكان آخر؟.

تقرير حديث صادر عن شركة الاستشارات الهندسية البريطانية "أروب" قدّم إجابة مدعومة بالأرقام والحقائق المقلقة، ليؤكد أن القاهرة بالفعل أصبحت فخًا حراريًا يهدد سكانها.

القاهرة.. صحراء أسمنتية؟

اعتمد التقرير على تحليل دقيق للبيانات على مستوى الشوارع، متجاوزًا مجرد قياس درجات الحرارة العامة، ليقدم دراسة تفصيلية حول كيفية تعايش السكان مع ارتفاع درجات الحرارة في أحيائهم.

وشملت الدراسة تحليل 150 كيلومترًا مربعًا من القاهرة، مع التركيز على أشد الأيام حرارة خلال موجة الحر الأخيرة.

واستخدم الباحثون أدوات تحليل متطورة مثل UHeat، التي لم تقتصر على قياس حرارة السطح، بل أخذت في الاعتبار ارتفاعات المباني وتأثيرها على تدفق الهواء، إضافة إلى مدى انعكاسية الأسطح الحرارية مقارنة بتلك التي تحتفظ بالحرارة.

كما تم تقييم نسبة المساحات الخضراء والمسطحات المائية في كل حي، ومدى الكثافة السكانية، والتكدس العمراني.

النتيجة

بعض الأحياء أصبحت "مصائد حرارية" حقيقية، بينما نجحت مناطق أخرى في الحفاظ على برودتها بفضل تخطيطها العمراني الذكي.

الأحياء الأكثر حرارة وبرودة في القاهرة

وفقًا للدراسة، احتلت منطقة بولاق الدكرور المركز الأول كأكثر الأحياء حبسًا للحرارة في القاهرة، حيث سجلت درجات حرارة تزيد بمقدار 5 درجات مئوية عن باقي المناطق خلال موجة الحر في يونيو 2022.

ويعود ذلك إلى انعدام المساحات الخضراء والمسطحات المائية، إلى جانب تراصّ المباني الخرسانية التي تحتجز الحرارة بشكل هائل.

وعلى النقيض، كانت جزيرة القرصاية بمثابة "الواحة وسط الجحيم"، حيث سجلت درجات حرارة أقل بـ 6 درجات مئوية مقارنة بأكثر المناطق حرارة في المدينة.

ويرجع ذلك إلى أن 60% من مساحة الجزيرة مغطاة بالمياه والنباتات، إضافة إلى وجود مساحات مفتوحة تسمح بمرور الهواء وتلطيف الأجواء.

المشكلة تتجاوز القاهرة.. العالم يزداد سخونة

الأزمة ليست محصورة في القاهرة فقط، بل إن التغيرات المناخية تؤثر على العالم بأسره، ووفقًا لتقديرات البنك الدولي، فإن مصر قد تشهد ارتفاعًا في درجات الحرارة يتراوح بين 1.5 إلى 3 درجات مئوية بحلول عام 2050، مع 40 يومًا إضافيًا من الحر الشديد سنويًا.

هذا الارتفاع المستمر يعني موجات حر أكثر طولًا وقوة، مما سيؤثر بشكل كبير على الفئات الأكثر فقرًا والأقل موارد، حيث سيكونون الأكثر عرضة للمعاناة من تداعيات تغير المناخ.

التوسع العمراني.. جريمة في حق المناخ

إذا كنت تظن أن الاحتباس الحراري هو السبب الوحيد للأزمة، فالأمر أكثر تعقيدًا، فقد ساهمت إزالة المساحات الخضراء في تفاقم المشكلة.

ووفقًا لتقرير نشرته وكالة رويترز، فقدت القاهرة 911 ألف متر مربع من المساحات الخضراء خلال 3 سنوات فقط قبل 2020، نتيجة مشروعات الطرق والتوسع العمراني.

وقد أدى هذا التراجع إلى انخفاض نصيب الفرد من المساحات الخضراء إلى 1.2 متر مربع فقط، وهو رقم كارثي مقارنة بالحد الأدنى الذي توصي به منظمة الصحة العالمية، والذي يبلغ 9 أمتار مربعة للفرد الواحد.

كيف يمكن تبريد القاهرة؟ الحلول المقترحة

أكدت الدكتورة أسماء حنفي، أستاذ الطاقة بجامعة الإسكندرية ومؤسسة "جرين سوسيتي"، أن الحل يكمن في زيادة المساحات الخضراء في الشوارع، وعلى أسطح المباني، وفي الأحياء السكنية.

كما شددت على ضرورة إلزام المشروعات الجديدة باستخدام أسطح عاكسة للحرارة، واعتماد الجدران الخضراء والأسطح المزروعة، إلى جانب تشجيع المواطنين على زراعة المساحات الفارغة حول منازلهم.

وأشارت إلى أن هذه الحلول ليست مجرد "رفاهية"، بل هي مسألة حياة أو موت، نظرًا لأن معظم المناطق الحضرية في مصر تتحول تدريجيًا إلى أفران حرارية ضخمة في الصيف، ومناطق شديدة البرودة في الشتاء.

وترى أسماء حنفي، أن أحد الأسباب الرئيسية لهذه المشكلة هو غياب معايير البناء البيئي، حيث يُسمح ببناء العمارات دون أي التزام بتوفير تهوية جيدة أو مساحات خضراء حولها، ونتيجة لذلك، تحولت معظم الأحياء إلى كتل خرسانية متلاصقة، تمتص الحرارة خلال الصيف، وتزيد من الرطوبة خلال الشتاء.

دور الدولة والمجتمع في مواجهة الأزمة

دعت أستاذ الطاقة، إلى تكاتف جميع الجهات المعنية لمواجهة الأزمة. فإذا كان بناء الطرق والكباري يتطلب إزالة المساحات الخضراء، فيجب تعويضها بمناطق خضراء موازية.

كما شددت على أهمية الحفاظ على حارات التشجير في الشوارع والميادين، وإطلاق مبادرات لتشجيع السكان على زراعة الأشجار أمام منازلهم، وفي الأماكن العامة.

وأكدت أن الأشجار لا تُساهم فقط في تلطيف الجو، لكنها تعمل أيضًا كمصدات طبيعية للهواء، مما يساعد في تقليل الأتربة وتحسين جودة الهواء، إضافة إلى دورها الحيوي في إنتاج الأكسجين وامتصاص ثاني أكسيد الكربون، مما يساهم في الحد من التلوث البيئي.

تحركوا قبل فوات الأوان

في ختام حديثها، وجهت أسماء حنفي رسالة واضحة: "علينا جميعًا أن نتحرك الآن، قبل أن نجد أنفسنا نعيش في بيئة غير صالحة للحياة. مستقبلنا ومستقبل أبنائنا يعتمد على القرارات التي نتخذها اليوم".

فما بين موجات الحر الشديدة، وزيادة معدلات التلوث، والاختفاء التدريجي للمساحات الخضراء، يصبح السؤال الأهم: هل ستتحرك القاهرة نحو التغيير، أم ستواصل الغرق في الجحيم الأسمنتي؟.