بدلت دموع الفقد إلى موائد رحمة.. حكاية "تكية بحرية" في الإسكندرية
![الحاجة بحرية](/themes/fagr/assets/images/no.jpg)
تبقى الإسكندرية.. مدينة الأزقة والحكايات التي لا تموت
الإسكندرية ليست مجرد مدينة ساحلية، بل هي مزيج فريد من الثقافات والتاريخ، مدينة "كوزموبوليتانية" حملت عبر العصور بصمات الإغريق والرومان والعرب، واحتضنت شعوبًا مختلفة تركت أثرها في شوارعها وأسواقها وأحيائها القديمة، منذ أن أسسها الإسكندر الأكبر عام 331 ق.م،
فهي ملتقى الحضارات، حيث تتجاور المباني العتيقة مع الأسواق الشعبية، وتلتقي رائحة البحر بعطر البخور الصاعد من زوايا المساجد، وعبق الأطعمة التي تنبعث من الأزقة الضيقة.
وتجولت "الفجر" في ساحة المرسي أبو العباس في أحد الأزقة القديمة، وهناك رائحة طعام قوية تنساب في الأجواء، وكأنها تنادي كل عابر سبيل.
وبين زحام المارة والطوابير الممتدة،
وبرز مشهد استثنائي، بين زحام المارة والطوابير الممتدة، طاولات بسيطة، ووجوه مختلفة، فقير وغني، شيخ وشاب، الجميع يجلس أمام أطباق طعام توزع بلا مقابل، في مشهد يعكس روح العطاء، حيث الخير متجسد في صورة تكية بحرية.
والتقت "الفجر" بالحاجة فيفي عبد الصمد أحمد عابدين، المشهورة بين أهل المنطقة باسم "بحرية"، تلك السيدة التي نذرت حياتها لخدمة الناس، وكرست عمرها لطهي آلاف الوجبات المجانية.
حكاية بدأت بدماء شهيد وتحولت إلى إرث لا ينقطع
بابتسامة يملؤها الرضا، وحركة لا تهدأ، تحكي لـ "الفجر" الحاجة بحرية، بملامحها الإسكندرانية الأصيلة، وحديثها الممزوج بالفخر والحنين أن التكية لم تكن مجرد فكرة، بل وُلدت من لحظة ألم، عندما استشهد شقيقها في حرب أكتوبر 1973، وحينها قررت والدتها أن تخلد ذكراه بطريقة مختلفة، حين سلمت القوات المسلحة مكافأة الشهيد، ورفضت الأم الاحتفاظ بها، قائلة: "ما نذرناه لله لن نأخذ منه شيئًا".
![](/Upload/libfiles/560/5/210.jpg)
وتابعت بشراء محلًا صغيرًا، ليصبح مطبخًا مفتوحًا للمحتاجين، تموله من معاش ابنها الشهيد، ومع الوقت، بدأ الخير يكبر، حتى تحولت الفكرة إلى عادة لم تنقطع منذ ذلك الحين لتصبح تكية إطعام شهيرة.
وتقول بحرية، وهي تتنقل بين الجالسين، تمد يدها بأطباق الطعام، تنادي على أحد المارة: "تعالى يا أخويا، كل لقمتك واتفضل" هنا، لا يُسأل أحد عن هويته أو حالته المادية، الجميع يتناول الطعام بنفس الحب، وكأن هذه التكية قطعة من مائدة لا تفرق بين أحد.
ربنا بيرضيني وبس
تتوقف "بحرية" للحظة، تنظر حولها إلى الطاولات الممتلئة، تتنهد بحنين، ثم تقول بصوت يخنقه التأثر: "نفسي أعمل تكية أكبر، تليق بالخير اللي بنعمله، وتكون مفتوحة لكل الناس، من كل مكان" تحاول أن تخفي دموعها، لكنها تتابع بصوت مرتجف: "عمل الخير مش مجرد حاجة بعملها.. ده البركة اللي بشوفها في حياتي، ورضا ربنا عني، هو ده اللي بيخليني أكمل".
![](/Upload/libfiles/560/5/211.jpg)
العطاء الذي لا يتوقف يوم في تكية بحرية
وتبدأ الحاجة بحرية يومها في التكية منذ الصباح الباكر، تحديدًا في التاسعة صباحًا، حيث تقف أمام الموقد، تتابع إعداد الطعام بنفسها، تشرف على كل خطوة، وتتأكد أن كل شيء يتم كما اعتادت منذ سنوات.
ولا ينتهي يومها قبل العاشرة مساءً، وأحيانًا يستمر العمل لما بعد منتصف الليل، خاصة في المناسبات الدينية، حين يزداد عدد المحتاجين الذين يقصدون التكية، ويصبح الطلب على الطعام أكثر من المعتاد، لكنها لا تتردد لحظة في الاستمرار، تؤمن أن العطاء لا يرتبط بوقت أو عدد، وأن الخير كلما زاد، زادت معه البركة.
وفي وسط هذا المشهد، لا تعمل الحاجة بحرية وحدها، فهناك جنود مجهولون يقفون بجانبها، يبذلون جهدًا كبيرًا لضمان استمرار هذا العطاء، ومن بينهم أحمد حسنين،صاحب سلسلة الحلويات الشهيرة بالإسكندرية، والذي يلعب دورًا أساسيًا في تجهيز الوجبات، حيث يساعدها منذ سنوات طويلة، ويبذل مجهودًا استثنائيًا لضمان إعداد الطعام بالكميات المطلوبة وتوزيعه على الجميع، وعن مساهمته، تقول بحرية بفخر: "أحمد سندي، وجوده معايا بيطمني، مش بس لأنه بيشتغل بإخلاص، لكن لأنه مؤمن بالقضية اللي احنا بنعملها وهي الخير".
![](/Upload/libfiles/560/5/213.jpg)
ويتحدث عم محمود عبد العال، الذي يعمل معها منذ عشرين عامًا، عن عمله بهذه التكية بحب شديد: "شُفت معاها أيام صعبة وأيام سهلة، لكن عمرها ما اشتكت، عمرها ما قالت خلاص كفاية والخير عندها عادة، مش مجرد فعل، وهي بتعلمنا كل يوم إن الرزق اللي ربنا بيدهولنا مش لنا لوحدنا".
وكشفت بحرية لـ "الفجر" عن استعدادها لشهر رمضان، والذي سيهل بنفخاته خلال أيام قليلة قائلة ذلك الشهر تتحول فيه التكية إلى خلية نحل لا تهدأ، حيث يتزايد عدد المحتاجين وتتضاعف الخيرات التي تنساب يوميًا على مدار ثلاثين يومًا متتالية، بداية من وجبات الإفطار التي تُعد بعناية لتكفي كل من يقصد التكية، وصولًا إلى وجبات السحور التي تستمر حتى قبيل الفجر، فلا يخرج أحد من هنا جائعًا، وعن هذا تقول بحرية: "رمضان له فرحة تانية.. الخير بيزيد، والناس بتتلم، وإحنا بنحس إننا عيلة كبيرة على سفرة واحدة".
![](/Upload/libfiles/560/5/214.jpg)
وسط زحام الحياة، وضغوطها المتزايدة، تبقى "تكية بحرية" شاهدًا على أن العطاء الحقيقي لا يرتبط بزمان أو مكان، بل هو نور يمتد، ويستمر ما دام بقيت القلوب تنبض بالخير.