النحيب على الياسمين.. لماذا سوريا؟
لماذا كل هذا الاهتمام والصخب برحيل بشار الأسد، ونظامه، والخوف من الفصائل التي تولت زمام الأمور؟ لماذا النوح بعد رحيل غير مأسوف لواحد من أشد الحكام ظلما لشعبه، وأكثرهم بطشا بأهله؟ لماذا الحزن عقب سقوط من استخدم الأسلحة الكميائية ضد أهله وقتل منهم أكثر من 100 ألف سوري وشرد الملايين في بقاع الأرض؟
لماذا تخافون من المجهول إذا كان السابق كان أقذر وأصعب وأشد ألما على أهلنا في سوريا؟ إذا كنت تخاف من الانقسامات فماذا كانت سوريا قبل سقوط بشار؟ إذا كنت تخاف من احتلال إسرائيل لسوريا، فماذا كان وضع الجولان السوري؟ إذا كنت تخاف من انتهاك السيادة السورية، فماذا كان وضع الطائرات الإسرائيلية التي تخترق الأجواء ليل نهار دون رد أو ردع؟
استفهامات استنكارية كثيرة وإجابات شتى، ورد هنا وآخر هناك، وحُجَّة هنا وقرينتها هناك، بين من يؤيد ما يحدث في سوريا وبين من يقلق بشأن الوضع، ليس انتصارا أو تأييدا لبشار ولكن خوفا على دولة كبيرة وقوة كانت أحد أعمدة خيمة العروبة.
منذ اليوم الأول لراحيل بشار وسقوط نظامه، وتعترينا مشاعر كثيرة متداخلة، الشيء ونقيضه: الفرحة والحزن، والشك واليقين، والخوف والاطمئنان.
وفي خضم تلك المشاعر، لا نرنو إلا لشيء واحد وهدف واحد، هو وحدة ذلك البلد المحبب إلى القلوب، إلى ذلك الشعب الكريم المضياف الطيب، إلى بلد دعا له الرسول صلى الله عليه وسلم: (يا طوبى للشام يا طوبى للشام يا طوبى للشام، قالوا يا رسول وبم ذلك قال: تلك ملائكة الله باسطوا أجنحتها على الشام)، وإلى بلد ذكر في الكتب السماوية، ففي الإنجيل: «وكان يسوع يطوف كل الجليل يعلم في مجامعهم، ويشفي كل مرض وكل ضعف في الشعب، فذاع خبره في جميع سورية، فأحضروا إليه جميع السقماء المصابين بأمراض وأوجاع مختلفة ، والمجانين والمصروعين والمفلوجين، فشفاهم».
وبداية أود تصحيح جزئية مهمة يغفلها مؤيدو ما يحدث في سوريا حاليا، وهي الحزن على رحيل بشار!! والحقيقة أنه لا يوجد حزن على رحيله، فجميع الدول وأكثرها الدول العربية، تحملت الكثير بسبب هذا الشخص، ومصر كان لها النصيب الأكبر في ذلك الحمل، فهنا فتحنا الأبواب أمام الأشقاء، اندمجوا وسطنا واستقروا وتعلموا وتاجروا وتزاوجوا وأنجبوا كما لو كانوا في بلدهم بل واستفادوا أكثر هنا.
وأسأل وغيري وهم كُثُر: أليس من حقنا أن نقلق على «ياسمين» الشرق، تلك القطعة الغالية على قلوبنا، رومانة ميزان في منطقة محفوفة بالمخاطر ومطمع لكل من هب ودب، أحد أعمدة العروبة وصمام أمان الوحدة العربية، جناح مصر الثاني في المنطقة وأحد أقوى الجيوش العربية، الذراع الثانية مع مصر في نصر أكتوبر العظيم على الصهاينة في 1973، هي وما زالت وستظل بؤرة اهتمام أي عربي يرى الأحداث بعين مجردة بعيدة عن التحزب والتناحر الحاصل.
أليس من حقنا أن نرتاب إذا رأينا من يتولى زمام أمور دمشق الآن، جماعة إرهابية هي في المقام الأول صناعة أمريكية وذريعة غريبة لتسهيل دخول الوطن العربي، ألا وهي داعش، أليس من حقنا أن نتوجس خيفة بشأن مستقبل البلاد إذا ما وضعنا في الحسبان أن الفصائل تلك مختلفة التوجهات والأيدلوجيات وجميعها تحمل السلاح، وليس من السهل أن تتركه الآن وتعود إلى صفوف المدنيين، (جبهة النصرة، تحرير الشام، سوريا الديموقراطية....)، كيف ستنصهر تلك الجماعات في حكم واحد ولكل منها هدف وداعم يقف خلفها يريد قطعة من الكعكة؟
يسعدني رحيل بشار لكن يحزنني سقوط الدولة، ويسعدني عودة الأمر لأهله في سوريا، لكن يحزنني ويقلقني وقوعها في يد مشبوهة مدعومة بقوة يسيل لعابها للالتهام سوريا، يسعدني شعور السوريين ولو بشكل مؤقت بالطمأنينة والحرية بالعودة إلى وطنهم الذي تركوه مجبرين، ولكن يحزنني عدم اكتراثهم بالمصيبة التي حدثت بضياع سلاحهم الاستراتيجي الذي قد يساعدهم في صد أي هجوم عليهم، ويسعدني خروجهم من عباءة الشيعة الإيرانيين ورجوعهم إلى الحضن العربي القومي الذي لن يجدوا غيره معينا وناصرا وناهيا لمعاناتهم، لكن يحزنني ويقلقني وقوعهم في يد دواعش يقدمونها على طبق من فضة إلى أمريكا وحلفائها.
ليس حكرا على أحد حب سوريا، وليس من حقه أن يزايد على حب آخر لها، وليس له حق منح الآخر صك الوطنية أو الخيانة، ما دامت الرؤية ضبابية والمشهد غير واضح، والأطماع متزايدة، والخريطة الكبرى للصهاينة ترسم الآن بدقة متناهية: (من النيل للفرات)، وعرب بلا جيوش ولا سلاح، لا جيش سوري ولا عراقي ولا مصري.
عندما نتحدث عن سوريا، لا نتحدث عن مجرد أرض أو حدود رسمها التاريخ على خرائطه، نحن نتحدث عن أمة كانت شاهدة على ميلاد الحضارات الأولى، عن شوارع تحمل عبق الياسمين، وعن وطن شكل نبضا حيا في قلب كل عربي.
اليوم، ونحن نقف أمام مرآة الواقع المؤلم، نرى جراحا عميقة في قلب هذه الأرض، جراحا تكاد تكون أكبر من قدرتنا على الاحتمال.
كيف لا نحزن على سوريا، وهي التي كانت تفيض بالجمال والحياة، فأصبحت ساحات قتال ودمار؟ -ليس كلامي عما بعد رحيل بشار ولكن كلامي هنا منذ 2011- كيف لا نحزن على شعبها الذي عاش أهوالا لا تحتملها الجبال؟
حزننا على سوريا هو حزن على ماضٍ ممتلئ بالزهو والأمل، وعلى حاضر يمزق القلب بألم الفقد والتشرد.
هو شعور بالعجز أمام دموع الأطفال التي لم تجف، وأمام أمهات ودعن أبناءهن بلا رجعة، هو وجع على ضبابية يعيشها ذلك المكان الذي كان يوما رمزا للأمان والبساطة، وعلى تحول البيوت إلى أنقاض تغطيها غبار الحرب.
والحزن ليس ضعفا، بل هو صوت ينبض بالإنسانية في داخلنا، هو تذكير بأن ما يحدث في سوريا ليس مجرد كارثة محلية، بل اختبار لضميرنا وضمير العالم كله.
نحزن لأن سوريا ليست مجرد مكان، بل هي جزء من كياننا، جزء من ذاكرتنا الجماعية ومن أحلامنا المشتركة.
ورغم كل تلك الضبابية والمشاعر المتداخلة، نؤمن بأن الياسمين سيعود ليتفتح يوما ما في دمشق، وأن تلك الأرض التي ارتوت بالدموع ستنهض من جديد، لأن سوريا ليست مجرد وطن، بل قصة لا تعرف النهاية.
دعواتي بكل إخلاص أن يوحد الله صفوف السوريين، ويلملم جراحهم سريعا، ويعجل بعودتهم إلى وطنهم، وتماسك أطيافهم، لا ناقة لي ولا جمل في سوريا، غير أني أريد أن أرى دولة قوية تحمي شعبا طيبا أصيلا، أريد أن أرى دولة قائمة قوية متماسكة، وجيشا قويا في المنطقة يقف جنبا إلى جنب مع باقي جيوش المنطقة، في وجه رمامة الأرض (الصهاينة) الذين ما انفكوا أن نهشوا في الجسد العربي من دون رادع، وسط صمت مخزٍ من الغرب الذي صدع رؤسنا بالحقوق والحريات واحترام القانون.