إيمان سمير تكتب: حكايات القوادم.. صهيل الماضى
تيار من الهواء البارد لا ينقطع... يتلاطم فى جميع أنحاء هذه الغرفة... يزعج أنفى ووجهى... هذه الغرفة التى أشاركها مع جدتى لأمى ومع أخى حين نأتى لزيارتها فى العطلات الرسمية البعيدة... ونضطر للبقاء يومين أو ثلاثة.
عندما يختفى الليل ولا يتبقَ منه سوى شعيرات من ظلام ذهبت لتفكك تداخلها مع نور الصباح الذى أعلن عن نفسه وعن الأمر ببدء الحركة للعمل الدءوب... تنزعج جدتى لتأخر أحدنا فى نومه العميق فتفتح علينا الباب الذى يحدث صريرًا ًاهائلًا يكفى لإيقاظ العاجزين.
نستيقظ دائمًا على وقع أقدامها وهى ساقطة من أعلى الدرج الداخلى تنظر فى ذهابها وإيابها إلى كل ما يخص جدى.. صورته المعلقة على الحائط... عصاه التى كان يتكئ عليها... مسبحته الكهرمان المعلقة فى حديد سريره المرفوع كثيرًا فوق الأرض... تستشهد دومًا بكلماته، تتلو علينا حكاياته... فهو عندها المبتدأ وإليه منتهاها.
تنادى على أسمائنا جميعًا فى جملة واحدة.. أنا وأخى وأخوالى وزوجاتهم... ثم تجلس على هذه الأريكة وتتحسس بيديها ركبتيها فى وهن ثم تلعن هذا الألم لقدميها العجوزتين.
تبدأ فى فك أوصال شعرها الأبيض وتمشطه حتى تضمه فى ضفيرة متوسطة ثم تغطيه بهذا الغطاء الطويل الذى تطويه حول رأسها لمرات عدة.
تنظر إلىَّ حتى أذهب لأهندم ثيابى وشعرى... كانت نظرتها حادة وجادة دومًا...قد يظن الناظر إليها أنها بائسة أو فى نكبة كبيرة.. لا تلتمس السبيل للتعرف على أناس جدد،ولا يملك أحد الجرأة للتعرف عليها...لا أدعى عشقها كوالدة أبى... ولكنى كنت مولعة بتتبعها ويغمرنى الفضول لمعرفة كل ما تصنعه...متمنية أن يُقتل هامش الدهشة بداخلى... فهى لا تحكى لى الكثير عن قصص الصغار... لا تحكى عن العفاريت واللصوص وقطاع الطرق والإنس والجان.
كنت فى أمس الحاجة إلى جلاء وجهها المطموس خلف الأيام وتقلباتها خلف مجريات أحداث السنين وقسوة الوحدة... إلا أنها لا تحيا فى صمت... حواراتها دائمًا متصلة مع من يسكنون مملكتها الخاصة والتى كانت تصطحبنى معها إليها...
فسطوح البيت به أحياء يتناولون فطورهم قبلنا جميعًا...
تهتم لنقيق دجاجاتها أكثر منا... تبتهج نفسها بتجميع هذه الكتاكيت الصغيرة تحت أشعة الشمس الدافئة وهى تتدفق فى أسراب من خلف هذه الغرفة الخشبية.
كنا نسعد بهذه الصداقة كما نسعد بالغدر بها حين ذبحها...
أراها تزقق الحمام بعشق كأنها تُقَبله...
وهذه الأرانب الرقيقة السريعة التى كانت ترعبنى حين قذف الخضروات إليها...
كان هذا الجانب هو الأسعد لى فى رحلتى معها خصوصا لجمع هذا البيض فى حجر جلبابها ومن ثم فى صندوق كان فى السابق لنوع من الجبن المعتق.
ثم تفكر فى إطعام البشر داخل هذا البيت...
فتظهر زوجة خالى الكبير قادمة فى رداء زاهى الألوان... تحمل صينية عليها أكواب اللبن وبعض الكحكات تكفى لفطورنا جميعًا.
يحضر أخوالى واحدًا تلو الآخر... ثم تفتح الحوارات الشائكة والطلبات التى يلقيها الجميع عليها فى حياء وخوف شديدين.
فزوجة خالى الأوسط ترجو الرجوع لجامعتها وإكمال دراستها.
يطلب خالى طلبه ورأسه منكس للأسفل... فمن الممنوعات عندها الغرق فى بستان الحرية...
المرأة عندها للبيت فقط والخروج للعمل أو الجامعة هو خروج عن المألوف وظاهرة ترجو زوالها سريعًا... برغم عمل أمي!!
حتى الحب فى نظرها اتفاقات بين أهل الطرفين مثلما بين الأشجار والزهور والخمائل يتولد ذاتيًا.
المرح بحدود.. الوقفة... النظرة... الضحكة... حتى العثرة وقت السير، لها نطاق مرسوم ومحدود.
حتى كلامنا ولعبنا كصغار... لا مجال للأسئلة الكثيرة التى تنهمر اعتباطا... حتى القوارب الصغيرة التى تعوم فى الجداول وتذهب مع الرياح فى رحلة مجهولة تتلمس فى الظلماء سبيلًا.
ثم يبدأ خالى الأصغر فى تجديد طلب الزواج من خطيبته... فقد مر عامان على وفاة جدى.
تقف على غفلة فى غضب وتؤجل كل القرارات للمساء... فعلينا العديد من الأعمال أهم من مناقشة أى شيء فى الصباح.
تقترب من صورة جدى وتلامس زجاجها بأناملها لتنظف بعض ذرات التراب الذى ينساب ساقطا ثم تتمتم فى خفر لا يليق بغلظتها ( واحشنى يا ولد عمي) فصورته لها ملاذ وقت الضياع.
فمحاولات النسيان لها لا يرجى منها شفاء... فقد سمعتها مرارًا تقول إن النسيان خرافة كخرافات أقاصيص الصغار.
كنت أسأل نفسى دومًا.. هل هى ضحية الأيام أم هى المذنبة بأفكارها فى حق نفسها؟
ما حيلتها والحياة لا تتوارى عن وسيلة فى الدفاع عن معتقداتها... وليس عندها أقوى من التجارب كاشفًا عن مطاوى النفوس.
تحاول الانغماس فى عمل البيت كى تنسى مطالب أخوالى... ثم أرَ عينيها تغوض فى أقصى الماضى الذى يتبعها كالظل... لا تقوَ على الفرار منه... فلا مناص من مواجهته وجها لوجه... بعين قوية وقلب ثابت...
تأخذنى معها فأستشعر الأمان فى نفسها كمن ذاهب إلى أضرحة الأولياء لتهمس لهم بأعذب الأمنيات فى قلبها.
ندخل من هذا الحوش الكبير الذى فتحت أقفاله بمفتاح خاص... ثم تقوم برى الزروع الجافة حوله وتلقى القليل من الماء على هذه الرمال أمام قبر جدى...
نقف غارقتين فى صمت... ممل لى كطفلة لا تعى جلال الموقف... ولكن أدرك أن هنا يرقد العديد من البشر... جدود وأقارب لى لم ألتقهم أبدا.
أراها تخاطب مرقد جدى بكلمات كالتى تُلقى على الأحياء الذين يسمعون ويستجيبون.
تميل الشمس عن كبد السماء ولاحت خطوط المساء على قبة هذا البيت كأنها خارجة منه إلى السماء.... نعود معا كالعائدتين من طواف مرهق... يغمرنا دفء الأراضى المخضرة والطرق الممتدة.
نجتمع ليلًا تحت هذا القمر لاحتساء مشروبات دافئة تحت تكعيبة العنب وأمامنا خيوط اللبلاب... وعلى ضوء المصباح المشتعل قليلًا... توافق جدتى على كل طلبات أخوالى... مقتربة من خالى الأصغر تبارك زواجه فى محبة وقد طاب له ما سمع...
ثم تمسك بيد أخى وأنا أتسلل لأتلصص عليهم بفضول الأطفال... فأراها تحمل أخى طالبة منه جذب صورة جدى... ويفعل، تحتضنها ثم تدخل غرفتها التى نحتل جزءًا منها... تدق مسمارًا فى علو تستطيع الوصول إليه وتعلق صورة جدى...
تبتسم حين تسمع صهيل جواده المربوط فى الخارج... وتغمض عينيها لتنام كمن تنتظر عودته غدًا.... أو الذهاب إليه.