صباح الخير
محمد مسعود يكتب: إرادة الرئيس.. والدواء المُر
جلس «سلامة» يائسا، كيف له أن يصرف على ثلاث بنات رزقه الله بهن، طلبت منه زوجته «سيدة» بأن ينزل للعمل، رد بأنه ينزل يوميا ولا جديد، فمهنة بائع الروبابيكيا، لم تعد تدر أى عائد، ومثلما يذهب، يعود خالى الوفاض، طلبت «سيدة» وألحت بأن ينزل والرزق على الله، وافق وهو يمسح دمعة تكونت فى عينيه، لكن بشرط، ألا تخبر الفتيات بأنه سيخرج للعمل، لأن طلباتهن لا تنتهى، وعندما لا يستطيع أن يوفِّيها، يرى فى أعينهن حزنًا كبيرًا «عارفة يا سيدة أصعب حاجة فى الدنيا لما تشوفى حتة من لحمك بتطلب حاجة وأنتى مش قادرة توفِّيها.. أنا بشوف فى عنيهم بصة.. بتموتنى».
قال لى الفنان محمود الجندى وهو من أدى دور «سلامة» فى مسلسلى «مذكرات سيئة السمعة»، الذى عرض عام ٢٠١٠، كيف كتبت هذا المشهد من دون أن تتزوج أو يكون لك ابن أو ابنة -وقتها كنت فى مرحلة الخطوبة- قلت له ربما «الإحساس بالمسئولية»، كان كفيلا بأن يولد لدى ما أكتبه على لسان «سلامة» الأب الذى هزمته الدنيا ودفعه الفقر فى النهاية إلى أن يتخلص من بناته وزوجته بأن يدس لهن ولنفسه السم ليشعروا جميعا بالراحة من قسوة الدنيا، ولسخرية القدر ماتت الأم والفتيات، لكنه لم يمت، عاش ليموت فى اليوم ألف مرة، من عذاب ضميره، لأنه لم تكن لديه إرادة للبقاء والنجاة، لم يكتف بحكم الزمن عليهم بالفقر، بينما نفذ فيهن حكم الإعدام خشية إملاق.
ما كتبته فى مسلسل «مذكرات سيئة السمعة»، كان فى عصر غير العصر، كتب فى الفترة من ٢٠٠٨ إلى ٢٠٠٩، وعرض بعدها بعام، كان مسلسلا كاشفا للمجتمع، عوراته وفساد الحزب الحاكم، وحالة الفقر التى أصابت المصريين، لم تكن هناك برامج حماية اجتماعية، ولا إعادة بناء إنسان أو مساكن تليق بهذا الإنسان، كانت هناك محاصيل مسرطنة، وتزوير انتخابات وفساد يزكم الأنوف، يمكنك أن تمر بفسادك إذا لم يعلم الرجل الكبير، أما إذا علم وخرجت الأمور عن السيطرة فيمكنك الهرب للخارج بأموالك وقروضك وأسرتك، وكان «سلامة» هو مثال المواطن الميت على قيد الحياة، الذى آثر أن يترك الدنيا بما فيها وأن يأخذ أسرته معه فى رحلة إلى عالم الموت، عله يقابل أرحم الراحمين رب العالمين، ويسامحه على ما فعله.
فى هذا العصر لم تكن دائرة من النار قد أحاطت بمصر، لم يكن هناك كم المؤامرات وحروب الجيل الرابع التى نعيشها، ورغم ذلك مات كثيرون بفيروس «سى» وبتأثير المنتجات المسرطنة، عاش المجتمع فى بنية تحتية منهارة، ودولة ذات اقتصاد منهار، وحلم كاذب يدعى لجنة السياسات بالحزب الوطنى، خرجنا من ذلك السواد إلى سواد أعظم، سنة سوداء قاحلة قضاها الإخوان فى سدة الحكم، وكان هناك بدلا من سلامة ألف سلامة ماتوا بالقهر والفقر والفاشية والإرهاب، وهناك من ماتوا حزنا وكمدا على ذويهم.. وهناك من تحمل وحارب على البقاء، وعمل على مصلحة الوطن حتى لو على حساب نفسه.. ولمَ لا؟، وقد أصبح أبا وكبيرا ورئيسا لشعب عظيم ودولة عظيمة.
لم يخلق الله البشر بنفس السمات والقدرات، وكلف كل نفس وسعها، وهو أعلى وأعلم بخلقه، لكن.. فكرة البقاء فى حد ذاتها قد تجعل تصرفات الآباء تبدو قاسية فى أعين أبنائهم، هذا هو الواقع، والحقيقة فأنا لم أنس أبدا ذلك اليوم، يوم تعرض ابنى آخر العنقود لقىء شديد، جعل الدواء لا يستقر فى معدته، هنا أمر الطبيب بحقنة لوقف القيء، كان خائفا، مرتعبا، صارخا، كان علىّ أن أمسكه وأحكم إمساكه، ليعطيه الطبيب الحقنة، بكى بحرقة ليس من وجعها لكن لأننى أحكمت إمساكه، كان صغيرا لدرجة أنه لن يستوعب أن ما فعلته كان لمصلحته، إننى لم أكن أريد له الألم، بل سعيت لأهب له الشفاء، ولم أشعر سوى بسخونة دمعة سالت من عينى، وسؤال ابنتى الكبرى «بتعيط؟»، لا أعرف وقتها أكان الدمع خوفا عليه أم حزنا من تأثير نظرة العتاب والخذلان التى رأيتها فى عينيه.
لكننى اكتشفت وقتها أن أجل الدموع وأعظمها هى دموع رجل يراه الجميع كبيرا قويا نافذا مؤثرا يوزع إرادته على الجميع، كل من حوله يستمدون القوة والثقة من قوته وإرادته، يحسبونه «آلى» وهو فى الأصل إنسان، يشعر ويحزن وينفق ويبذل من عمره وصحته عليهم، يخاف لحد الموت على من يحبهم، يحبهم حتى وهم يلومونه على قسوة مرارة الدواء، أتصور أن هذا هو شعور الرئيس، فالدموع التى غلبته، هى دموع قوة، دموع محب يُلام على نبله وبطولته وحسن نواياه، فلا يوجد رئيس لا يريد أن يعيش شعبه فى حال من السعة واليسر، خاصة الرئيس عبدالفتاح السيسى الذى لم يتهرب يوما من المسئولية، فى أحلك الظروف والأحوال التى مرت على هذا الوطن.
أعتقد أنها دموع المسئولية، والإرادة، سنكمل رغم الألم، لن نوقف الدواء حتى الشفاء التام والنهائى من أوجاع مصر، ونحن معه حتى النهاية، نستمد منه الإراده ونعينه على مسئولياته التى اختاره الله لها ولو كره الكارهون، ويومًا ما سيأتى وقت الحصاد، وسينصف التاريخ إخلاص الرئيس الذى جاء فى أخطر مرحلة من عمر مصر.