هل نزل القرآن الكريم كاملا بكل سوره في شهر رمضان؟ الإفتاء تجيب
أجابت دار الإفتاء المصرية عن تساؤل قد ورد إليها عن ما معنى نزول القرآن الكريم في شهر رمضان وكونه هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان؟ فقد كرَّم الله تعالى وشرَّف شهر رمضان بنزول القرآن فيه، فهل معنى ذلك أن القرآن الكريم كاملا بكل سوره نزل في هذا الشهر المبارك؟ وما معنى قوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ [البقرة: 185]؟
عبر فتوى تحمل رقم “8134” قائلة:- القرآن الكريم قد أنزله الله تعالى من اللوح المحفوظ في ليلة القدر جملةً واحدةً، ثم وُضع في بيت العزة في السماء الدنيا، ثم بعد ذلك أنزله جبريل عليه السلام على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مُفَرَّقًا سورة تلو سورة وآية تلو أخرى على مدة النبوة كاملة، وإن هذا القرآن قد أُنزل هداية للناس بإعجازه وإرشاداته، وإن آياته واضحات في الهداية إلى الحق وبيان الأحكام، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾.
مذاهب العلماء في نزول القرآن الكريم كاملًا في شهر رمضان
القول بأن القرآن الكريم بكلِّ سوره قد نزل في شهر رمضان المبارك بناءً على قول الله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ [البقرة: 185] من المسائل التي تعددت فيها أقوال العلماء:
فقد ذهب جمهور العلماء إلى أن القرآن الكريم قد أنزله الله تعالى من اللوح المحفوظ ليلةَ القدر جملةً واحدة، ثم وُضع في بيت العزة في السماء الدنيا، ثم بعد ذلك أنزله جبريل عليه السلام على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مُفَرَّقًا على حسب الأوامر والنواهي والأسباب في نحو عشرين سنة أو أكثر على حسب الخلاف الوارد في مدة النزول، كما أفاده الإمام القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (2/ 297، ط. دار الكتب المصرية).
وقد ذكر الإمام فخر الدين الرازي في "مفاتيح الغيب" (5/ 253، ط. دار إحياء التراث العربي) أن هذه المسألة خلافية، وأن الآراء الواردة فيها محتملة، ومن ضمن ما ذكره من الآراء: [أنه سبحانه وتعالى كان يُنْزِلُ من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا من القرآن ما يعلم أن سيدنا محمدًا عليه الصلاة والسلام وأمته يحتاجون إليه في تلك السنة ثم يُنْزِلُهُ على الرسول على قدر الحاجة] اهـ.
وذهب بعض العلماء إلى أن المراد من الآية هو أن ابتداء نزوله كان في ليلة القدر التي هي من شهر رمضان.
قال الإمام النسفي في "تفسيره" (1/ 159، ط. دار الكلم الطيب): [أي: ابْتُدِئَ فيه إنزاله، وكان ذلك في ليلة القدر] اهـ.
بيان الرأي الراحج في هذه المسألة
الذي نختاره من هذه الآراء هو القول الأول الذي ذهب إليه جمهور العلماء؛ لما جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «أُنْزِلَ الْقُرْآنُ جُمْلَةً إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، ثُمَّ أُنْزِلَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي عِشْرِينَ سَنَةً، قَالَ: ﴿وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا﴾ [الفرقان: 33]، وَقَرَأَ: ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا﴾ [سورة الإسراء: 106]» رواه النسائي، والحاكم في "المستدرك".
وأيضًا لِـمَا ورد عن ابن عباس رضى الله عنهما في قَولِه عَزَّ وجَلَّ: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ [القدر: 1]، قال: أُنزِلَ القُرآنُ في لَيلَةِ القَدرِ جُملَةً واحِدَةً إلَى سَماءِ الدُّنيا، وكانَ بمَوقِعِ النُّجومِ، وكانَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ يُنزِلُه على رسولِه صلى الله عليه وآله وسلم بَعضَه في إثرِ بَعضٍ، فَقالَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾ [الفرقان: 32]» رواه الحاكم في "المستدرك"، والبيهقي في "السنن الكبرى".
وقد نص العلماء على رجحان هذا القول، قال الإمام بدر الدين الزركشي في "البرهان في علوم القرآن" (1/ 228- 229، ط. دار إحياء الكتب العربية): [واختلف في كيفية الإنزال على ثلاثة أقوال:... والقول الثالث: أنه ابْتُدِئَ إنزاله في ليلة القدر ثم نزل بعد ذلك منجمًا في أوقات مختلفة من سائر الأوقات، والقول الأول أشهر وأصح، وإليه ذهب الأكثرون] اهـ.
واختار الحافظ ابن حجر العسقلاني قول الجمهور، فقال في "فتح الباري" (9/ 4، ط. دار المعرفة): [وما تقدم من أنه نزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ثم أنزل بعد ذلك مفرقًا -هو الصحيح المعتمد] اهـ.
معنى كون القرآن الكريم هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان
يظهر مما ذُكر أن معنى قوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ أنَّ القرآن الكريم قد أنزله الله تعالى من اللوح المحفوظ ليلة القدر جملة واحدة، ثم وضع في بيت العزة في السماء الدنيا.
وأنَّ قوله: ﴿هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ أي: قد أُنزل هداية للناس بإعجازه وإرشاداته، وأن آياته واضحات في الهداية إلى الحق، وأنه نزل ليفرق بينه وبين الباطل بما فيه من الحكم والأحكام.
قال الإمام البيضاوي في "أنوار التنزيل وأسرار التأويل" (1/ 125، ط. دار إحياء التراث العربي): [وفيه: إشعار بأن الإنزال فيه سبب اختصاصه بوجوب الصوم. ﴿هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ حالان من القرآن، أن أُنزل وهو هداية للناس بإعجازه، وآيات واضحات مما يهدي إلى الحق، ويفرق بينه وبين الباطل بما فيه من الحكم والأحكام] اهـ.
الخلاصة
بناءً على ذلك: فإن القرآن الكريم قد أنزله الله تعالى من اللوح المحفوظ في ليلة القدر جملةً واحدةً، ثم وُضع في بيت العزة في السماء الدنيا، ثم بعد ذلك أنزله جبريل عليه السلام على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مُفَرَّقًا سورة تلو سورة وآية تلو أخرى على مدة النبوة كاملة، وإن هذا القرآن قد أُنزل هداية للناس بإعجازه وإرشاداته، وإن آياته واضحات في الهداية إلى الحق وبيان الأحكام، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾.
والله سبحانه وتعالى أعلم.