بين الشواية وقدر الزيت: أهم حاجة عيالي ياكلوا حلال
"أم حمو" أشهر شواية سمك بالإسكندرية: البكاء ما تبقى لي من أنوثتي
أصوات عالية، وأرقام وأسعار ومنتجات وأطعمة من كل لون، وباعة في كل مكان، إنها جلبة سوق الميدان، أكبر أسواق الإسكندرية صخبا وزحاما، تلك الضوضاء تنتهي في منتصف السوق تقريبا، فأذن "أم حمو" لا تسمع غير صوت نفسها في حديثها اليومي عن بناتها وحالها وأولادها.
قدر كبير من الزيت، بحرارة مرتفعة جدا تكاد أن تذيب الحديد، وشواية سمك على الجانب الآخر من القدر، ويداها اللتان كانتا ناعمتين في الماضي، تتحرك بينهما بخفة وسرعة وحدة متوازية، ولازالت أذنها تغلق مسامعها عن أي ضوضاء سوى صوت حديث النفس الداخلي، لربما حدثتها نفسها عن ابنتها الكبرى في الكلية الآن هل يسير يومها بشكل جيد، أو عن مستقبل الصغير والذي كان يؤدي امتحان الجبر ـ وقت أن زارتها "الفجر" في مقر عملهاـ، أو عن كيف ستنجو بكنزي "آخر العنقود" والتي تصحبها معها للعمل يوميا.
لقمة العيش
بملابس أشبه بزي الرجال، تقف "أم حمو" السيدة الأربعينية، والتي كانت يوما ما تنعم برغد العيش، فلم تقف أمام نار سوى نار مطبخها في بيتها الصغير تطهو طعام أبنائها وزوجها، قبل أن يرحل عنها وتبدأ تواجه الحياة وحدها، فهي أم وأب لـ3 أولاد، تحلم بأن يكونوا ذوي شأن في يوم ما، فالتعليم عندها أهم من الطعام والشراب والدواء.
"أم حمو" السيدة الأربعينية، والتي واجهت الحياة في أصعب أحوالها اتجهت لسوق الميدان بحثا عن العمل، من أجل نفقات أبنائها، فانتهى بها المطاف من حيث بدأت، إذ عملت في شواية سمك بالسوق، وتبدل الحال فبعد أن كانت تطهو لأسرتها، أصبحت تشوي وتقلي السمك لآلاف الأسر يوميا.
عشان ولادي أعمل أي حاجة
عدسة الفجر فاجأتها، وهي بين عشرات الرجال، تقلب السمك على النار، وتنظر يمينا للفرن الآخر، وفي نفس الوقت عينها على شمالها حيث قدر الزيت والأسماك المقلية، تقف وسط درجة حرارة مرتفعة جدا رغم برودة طقس الإسكندرية في يناير، ثم تقول "عشان ولادي أعمل أي حاجة".
سكتت برهة وسكت معها صوت الزيت والشواء، وكأنهما يعزفان على وتر صاحبتهما، ثم تقول "كان يجب أن أعمل حتى أحصل على نفقات أولادي، والحياة تحتاج لجهاد، ابنتي الكبرى في كلية التمريض، ولا أريدها أن تشعر بأنها أقل من زميلاتها، وابني في الإعدادية، وهمي الأكبر الصغرى ذات 4 سنوات، أحلم لها بمستقبل أفضل من أخويها".
"أم حمو":اشتقت لأن أضع طلاء الأظافر على يدي
وتتابع "أم حمو" بينما هي تقلب الأسماك في الشواية مرتفعة الحرارة، "القدر اختارني أكون أب وأم، أحيانا اشتاق لبيتي ولمطبخي، وسرعان ما أكتم هذا الحنين، وأتجاهله، فالطهو في المنزل أصبح من الرفاهيات بالنسبة لي، ذات مرة اشتقت لأن أضع طلاء الأظافر على يدي، بمجرد أن قمت بطلاء أول أظفرين بكيت، ولم أكمل، وسألت نفسي كيف لي أن أقف في السوق وسط الرجال بهذه الزينة، واضطررت لأن أنسى أنني أنثى، ولم يتبق لي من أنوثتي سوى البكاء، حينما تغلبني الحياة ويتغلب على التعب والعناء أبكي، ولم أمنع نفسي من البكاء لأنه ما تبقي لي من أنوثتي".
تنظر نظرة سريعة ليدها، ثم تنظر الأخرى لـ "جريل الشواء" وكأنه مرآة تعيد به زينتها ورونقها، وتبتلع ريقها بشئ من الغصة وتنظر لمحرر "الفجر"، وتقول "أسعد لحظات حياتي وأنا داخلة البيت على عيالي وهم مستنيين رجوعي، أترمي في حضنهم واطمن على دراستهم، ويشكروني وتحضر لي ابنتي كوب الشاي ثم يمازحني ابني، لحظات عابرة في اليوم قبل أن ينتهي ليبدأ يوم جديد مثله مثل سابقه فلا جديد في حياتي أنام أذهب للعمل أعود للبيت أطمأن على الأولاد ثم أنام، وهكذا دوامة شقاء".
12 ساعة أشغال شاقة
وتتابع "أم حمو"، أنا أعمل 12 ساعة يوميا، بالإضافة إلى ساعتين مواصلات، أحيانا أذهب للبيت ولا أشعر بنفسي ولا قدمي من التعب، تخليت عن أحلام كثيرة جدا، وعن طباع كانت فيّ، من أجل أن أستطيع أن أقف وسط الرجال في السوق، فلا مجال للأنوثة، بين الرجال، وبين النار والفرن والزيت، لا بد أن أفوقهم قوة ورجولة.
ثم تتحدث بشيء من الثقة، وتتسع عيناها، وتنظر إلى السوق حيث الجلبة والزحام وتقول، "كنت زمان أتابع الأخبار، وكان عندي وقت أقرأ وأتابع نشرة الأخبار، وبعد أن ازدحم يومي بمهام العمل، أصبحت أقرأ الأخبار في عيون الناس، أعرف أخبار الاقتصاد من كميات الشراء، والمزاج العام للناس من أنواع السمك، أنا متأكدة أن المصريين أكثر ناس شعروا بما يحدث لأهلنا في غزة، لإن معدلات الشراء انخفضت والأنواع أصبح معظمها بين البلطي والبوري وقل استهلاك الجمبري وأسماك البحر والفسفور، فبدلا من أن أذهب للمجتمع لأعرف أخباره، أصبح يأتيني إلى مكاني حيث أقف.
وبينما تقص "أم حمو" رحلات شقائها اليومي، يرتفع أذان الظهر، وفجأة يكثر الزحام في الشواية التي تعمل بها، ويلتف عشرات الزبائن من حولها، يقومون بإعطائها أكياس الأسماك، ويبدأون بإملاء طلباتهم عليها، فتختفي عن أعين عدسات المحرر بين الزبائن، كما اختفت عن طريق طلاء الأظافر، وأصبع "الروج"، لتبدأ اليد الناعمة، في الحفر في صخر الاحتياجات عساه تنفجر منه حياة أقل حدة، وأكثر راحة في مستقبل لا تراه قريبا.