"إسماعيل المفتش" الخديوي الصغير الذي سيطر على البلاد.. ومات بشكل بشع على سفينة في دنقلة
"السلطة المطلقة التي لا حدود لها نوع من المتعة، ولو كانت سلطة على ذبابة" فيودور دوستويفسكي فنان، كاتب، روائي (1821 - 1881).
إسماعيل صديق الشهير بـ المفتش، أطلق عليه الخديوي الصغير وكان الرجل الثاني في الدولة بعد الخديوي إسماعيل، المفتش فعليا كان الرجل الأول داخل البلاد، فكان أخا للخديوي إسماعيل في الرضاعة وكانت علاقته بالخديو أشبه بعلاقة الرئيس الراحل عبدالناصر وعبدالحكيم عامر بعد ثورة يوليو عام 1952، وكذلك علاقة هارون الرشيد الخليفة ورئيس وزرائه جعفر البرمكي، فيما أكد إسماعيل باشا صدقي رئيس وزراء مصر الاسبق في مذكراته أن والده قد سماه "إسماعيل صديق" تيمنا بالمفتش لكنه غير الإسم فيما بعد.
تولى إسماعيل المفتش نظارة المالية منذ عام 1868 إلى عام 1876، لتشهد مصر أزمة مالية كبرى لينتهي الأمر إلى الاحتلال البريطاني لمصر عام 1882، ولد المفتش عام 1830 في أسيوط، والده هو مصطفى أغا باشا كان قائدا في الجيش فيما كانت والدته كبيرة واصفات القصر وعهدت إليها خوشيار هانم زوجة إبراهيم باشا ابن محمد علي إرضاع الخديوي إسماعيل ليصبح أخا لإسماعيل المفتش في الرضاعة.
فيما اختلفت الروايات حول أصول المفتش، البعض يقول أنه ولد في الجزائر ثم انتقل إلى القاهرة في صغره، وروايات أخرى تقول إن أصل عائلته من مراكش في المغرب.
كانت أول وظيفة تولاها إسماعيل المفتش مسير الركائب أي رئيس الاسطبلات في عهد الخديو عباس ثم مفتش بالدائرة السنية في مديرية الشرقية، ثم بعدها أصبح مفتش عمومي ليحصل على رتبة "الباشوية"، وبدأ الصعود الحقيقي لإسماعيل المفتش مع تولي أخوه في الرضاعة الخديوي إسماعيل حكم مصر.
تم تعيينه من قبل الخديوي إسماعيل مفتش مالي على الأقاليم البحرية، لينجح في إبهار الخديوي بما فعله، ليقوم بتعيينه مفتشا عاما للأقاليم ولذلك أطلق عليه إسماعيل "المفتش"، ومن ثم أعطاه الحقيق في تعيين وفصل العمد ومشايخ البلاد والمأمور والناظر وكانت من سلطات الخديوي شخصيا.
أعمال إسماعيل المفتش
وعهد لاسماعيل المفتش بالأشراف على انشاء سكة حديد بنها، وقام بتنظيم الأمور الخاصة بعمليات السخرة للعمال من أجل الانتهاء من الأعمال الخاصة بالسكة الحديدية، واستطاع أن يضع حدودا للسخرة لكنه لم يستطع إلغائها، كما عمل على توطين العربان، والقضاء على التمردات التي يقومون بها وتصاحبها أعمال نهب وسرقة في البلاد، بالإضافة إلى أعمال قتل وخطف، ليصادر أسلحتهم مرة وأخرى يمنحهم الأراضي.
تولى إسماعيل المفتش نظارة المالية عام 1868، وكان من أعضاء المجلس الخصوصي التي يمتلك اختصاصات بشأن النظر في شئون الحكومة، وسن اللوائح والقوانين وإصدار التعليمات والأوامر لجميع المصالح الحكومية.
عمل إسماعيل المفتش على بناء 4500 مدرسة، وحين تولى علي مبارك نظارة المعارف أو ديوان المدارس في عام 1868، كانت البنية الأساسية للتعليم قد أقيمت بالفعل لتشهد مصر نهضة تعليمية كبرى تنسب إلى علي مبارك حتى يومنا هذا.
المفتش بدأ في جمع التبرعات والإعانات من أعيان وعمد ومشايخ البلاد من أجل نشر التعليم في القطر المصري بالكامل، بعدما أقام وليمة بمولد السيد احمد البدوي بطنطا بحضور الخديو والأمراء أنجال الخديو والأعيان ونظار الدواوين من أجل جمع التبرعات لذلك لم يكلف ملف التعليم الدولة الكثير من الأموال كما حدث في عهد محمد علي باشا.
الصراع مع الأتراك
مثل إسماعيل المفتش العنصر الوطني والمصري في الدولة، حيث أن أحمد عرابي استنجد به بسبب الأتراك والشركس وهو ما ذكره في مذكراته، لم يكن إسماعيل المفتش يحب الأتراك، وهذا ما يفسر التنافس والكراهية بينه وبين محمد شريف باشا الذي ينحدر من أصول تركية.
ولكن الوقائع أثبتث فيما بعد حينما ينشب صراع بين الأتراك والأجانب، كان المفتش ينحاز إلى الجانب التركي بشكل فج، على سبيل المثال حين أرسل الخديو إسماعيل حملة الحبشة، كان هناك اقتراح بأن يتولاها ضابط أجنبي اسمه لورانج، لكن اقترح شريف باشا ان يتولاها ضابط تركي وهو راتب باشا ليكون قائدا ليوافق إسماعيل المفتش على طلبه.
رحيله عن نظارة المالية
تولى إسماعيل باشا المفتش نظارة المالية لمدة 8 سنوات وهي أطول فترة لناظر في الوزارة، وتواجد قبله في النظارة ثلاثة نظار في خمس سنوات فقط، وأضيفت نظارة الداخلية والدائرة السنية بسبب كفاءته وحسن ادارته، حيث أنه استطاع تنظيم الشئون المالية في القطر المصري بأكمه.
حدثت غي عهد إسماعيل المفتش أزمة مالية كبرى بسبب الديون الخارجية على مصر، حتى أن الموزفين لم يقبضوا رواتبهم لمدة 18 شهرا، كما أن الفلاح كان يهرب من أرضه، وقام الخديوي إسماعيل بعدة إصلاحات اقتصادية وقام ببيع حصة مصر في قناة السويس إلى إنجلترا، لكن لم تحل الأزمة المالية وبالاتفاق مع فرنسا أرسلت إنجلترا لجنة "جوبير – جوشن" ولم يكن عمل هذه اللجنة مجرد تقييم الأوضاع المالية، والبحث عن مخرج من أجل سداد الديون، لكنها بدأت بالفعل في السيطرة على مالية الدولة المصرية.
واجتمع المجلس الخصوصي في ظل تواجد المفتش، لكن أغلب المجلس رفض آراء المفتش واعتمد آراء لجنة "جوبير – جوشن"، ليرسل إسماعيل المفتش استقالته إلى الخديوي، وفي اليوم التالي انتشر خبر كالنار في الهشيم عن جلسة خاصة بين الخديوي والمفتش، ليخرج منها المفتش وتبدو عليه علامات الفرح، لتصل الإشاعات إلى اللجنة التي اعتقدت أنه سيعود لمنصبه، ليقرروا مقاضاته بصفته "لص" بسبب وجود عجز في الميزانية يصل إلى 40 مليون فرانك.
وفي محاولة أخيرة من المفتش، قرر الحصول على فتوى من المشايخ أن الدين لا بد أن يدفع دون الفوائد أي الربا، لكن الخديوي توفيق ولي العهد أفضل الخطة وأقنع المشايخ العدول عن الفتوى حتى لا يحتل الأجانب الدولة.
وقرر السلطان العثماني محاكمة المفتش إسماعيل في الاستانة، لكن الخديوي إسماعيل أدرك حينها أنه لا يجب محاكمة المفتش بعيدا عنه لأنه هو "الصندوق الأسود" لأسرار الخديوي وقد يعاقب بسبب سياسته المالية الشرهة.
وفي النهاية، قررر االخديوي إسماعيل الإطاحة به، ويرى البعض بسبب رفضه سياسة الاستدانة ورفض الانصياع للقوى الاوروبية والتدخلات الاجنبية، وكان يرى أن البلاد تستطيع تسديد الديون إلى الدول الأوروبية، فكان الخديو يريد أن يكسب الدول الأوروبية في صفه، وأراد أن يبتعد عن الدخول في صراعات مع السلطان العثماني، ولهذا أطاح بـ المفتش.
مقتله بطريقة بشعة
وحين تقدم إسماعيل المفتش باستقالته في المرة الأولى رفضها الخديوي، وقرر أن يكتب الاستقالة بنفسه وكتب فيها على لسان المفتش أنه هاجم الخديوي وأنه خضع للأوروبيين وتسليم البلاد إلى الأجانب، حتى يجد مسوغ لما سيفعله بـ المفتش لاحقا، وتم استغلال نوبات "السكر" التي اعتاد عليها المفتش ليحصل على إمضاء على صيغة الاستقالة الجديدة.
وأكثر الروايات تقول أن الخديوي إسماعيل زاره في منزله صباح يوم الجمعة واصطحبه في نزهة إلى مقره بالجزيرة "فندق ماريوت" في الوقت الحالي، ليتم حبس إسماعيل المفتش حتى آخر النهار ومن ثم حمل على سفينة منفيا إلى دنقلة بالسودان، وقبل أن يصل حلوان تم قتله بطريقة بشعة، حيث أن القاتل جذبه من خصيتيه بعنف وظل يضغط عليهما حتى لفظ أنفاسه.
وكان المفتش قد أمسك بأسنانه بأصبع ذلك القاتل وتمكن من قطع أحد الأصابع لكنه في النهاية قتل ومن ثم ألقي في مياه النيل، ولم يستطع أحد أن يعثر على جثة المفتش ولا يوجد له قبر معروف حتى وقتنا الحالي.
أنصار الخديوي كذبوا تلك الرواية، وقالوا إنه وصل بالفعل دنقلة ومن شدة السكر هناك مرض ومات، إلا أن المؤرخين وعلى رأسهم المؤرخ الكبير عبدالرحمن الرافعي أن رجال الخديوي خنقوا المفتش، ومن ثم وضع الجثمان في حقيبة مليئة بالأحجار -وقيل الحديد- وألقي في نهر النيل، حتى استقر في القاع.