«212 عامًا على مذبحة القلعة» قراءة جديدة لحادثة 1 مارس 1811م
تُعد مذبحة القلعة أحد أبرز المشاهد في تاريخ مصر الحديث، والتي غيرت مجريات أمور كثيرة في مصر، وقضت على بقايا المماليك، أو من عرفهم التاريخ ببكوات المماليك، وهم الذي كانوا مسيطرين بشكل كبير خلال فترة الحكم العثماني مصر على المقاليد الإدارية في البلاد، واندلعت المواجهات بين المماليك ومحمد علي الوالي الجديد على مصر والذي كان يطمح للاستقلال بها وتكوين إمبراطورية جديدة، ويبحر بنا الدكتور ولاء الدين بدوي، المتخصص في الاثار الإسلامية، عبر التاريخ في قراءة جديدة لهذه الحادثة.
ويروي بدوي الرواية بمشهد ماقبل المذبحة بدقائق فى الأول من مارس عام 1811م منذ مائتان واثنا عشرة، حيث يتقدم الموكب جيش كبير من الأحصنة التى يركبها جنود وضباط محمد علي بقيادة ابنه إبراهيم باشا، ثم طلب محمد على من المماليك أن يسيروا في صفوف الجيش لكي يكونوا في مقدمة مودعيه.
في هذه اللحظة بعد خروج الجيش من باب القلعة وتحديدًا باب العزب المطل الآن على ميدان القلعة في مواجهة مدرسة السلطان حسن، أغلقت الأبواب والحراس الذين كانوا يديرون رؤوسهم للمماليك استداروا لهم وانطلقت رصاصة في السماء، لم ولم ينتبه المماليك إلا الآن، ولكن بعد فوات الأوان، وانهالت طلقات البنادق من كل صوب نحو المماليك.
وتابع بدوي، «لو أردنا المزيد من التوضيح سنعود بالأحداث إلى الوراء قليلًا عندما عاد محمد علي باشا من الوجه القبلي وأخذ يجهز جيشًا كي يرسله إلى الحجاز لمحاربة الوهابيين، تلبيةً لنداء الباب العالى فى إسطانبول، وأخذ في إعداد الحملة أوائل سنة 1811، وعقد لواء قيادتها لابنه أحمد طوسون باشا، وأعد مهرجانًا فخمًا بالقلعة، وحدد له يوم الجمعة أول مارس سنة 1811 للاحتفال بإلباس ابنه خُلعة القيادة، ودعا رجال الدولة وأعيانها وكبار الموظفين العسكريين والملكيين لشهود ذلك الاحتفال الفخم، وكان الترتيب أن يلبس طوسون باشا خُلعة القيادة، ثم ينزل من القلعة في أبهته وموكبه مخترقًا أهم شوارع المدينة ليصل إلى معسكر الحملة في القبة وكان فى السابعة عشر من عمره واختار الشيخ محمد المحروقى كبير تجار مصر مديرًا لمهمات الحملة ومستشارًا للامير طوسون وأوصاه أن يلتزم باتباع مشورته، وتوفي طوسون في 7 ذي القعدة عام 1231هـ / 30 سبتمبر 1816، فأتى بجثته إلى القاهرة، ودفن فيها، وكان جميل الطلعة، متوقد الذهن، ميَّالًا للعلم، ذو بأس وحزم، وتركت وفاته وقعًا شديدًا في قلب والده الذي صرخ صرخة مدوية ودخل فى عزلة دامت طويلا عندما علم بتلك الوفاة وتأكدت لديه.
كان هذا الاحتفال من المواكب المشهودة التي تحتشد لها العامة والخاصة، وقد دعا الباشا جميع الأمراء والبكوات والكشاف المماليك وأتباعهم لحضور الحفل، فعد المماليك هذه الدعوة علامة رضا من محمد علي باشا، وركبوا جميعا في زينتهم، وارتدوا أجمل وأثمن ما عندهم من الملابس، وامتطوا خير ما لديهم من الجياد، وذهبوا صبيحة ذلك اليوم إلى القلعة قبل الموعد المضروب لتحرك موكب جيش طوسون باشا.
أغلى فنجان قهوة في التاريخ
قبل بداية الحفل دخل بكوات المماليك على محمد علي باشا قاعة الاستقبال الكبرى، فتلقاهم بالبشرى والحفاوة، وقدمت لهم القهوة، وشكرهم الباشا على إجابتهم دعوته، وألمح إلى ما ينال ابنه من التكريم إذا ما ساروا معه في موكب، فأجابوه بالشكر، واعتذروا عن تخلف بقية إخوانهم الذين ما زالوا في الصعيد ولم يحضروا للاشتراك في الاحتفال، فقابل الباشا الاعتذار بالتجاوز والإعراب عن تسامحه وحسن مقاصده للمتخلفين، وتجاذب هو وضيوفه أطراف الحديث هنيهة ثم ما لبث أن أذن مؤذن الرحيل، فقُرعت الطبول وصدحت الموسيقي، فكان ذلك إعلانا بالتأهب لتحرك الموكب.
تحرك الموكب، تتقدمه طليعة من الفرسان الدلاة يقودها ضابط يدعى «أوزون علي»، يتبعها والي الشرطة، والأغا (محافظ المدينة) والمحتسب، ويليهم الوجاقلية، ثم كوكبة من الجنود الأرناءود يقودهم صالح «أغا أق قوش» ثم المماليك يتقدهم سليمان بك البواب، ومن بعدهم بقية الجنود الأرناءود فرسانا ومشاة، وعلى أثرهم كبار المدعوين من أرباب المناصب.
فاجتازت الباب طليعة الموكب، ثم رئيس الشرطة، ثم المحافظ ومن معه، ثم الوجاقلية، ولم يكد هؤلاء يجتازون باب العزب حتى ارتج الباب وأقفل من الخارج على حين فجأة إقفالًا محكما في وجه المماليك، ومن ورائهم الجنود الأرناءود، فلما رأى هؤلاء الجنود الباب قد أقفل، وكانوا عالمين بما تدل عليه هذه الاشارة، تحولوا عن الطريق في صمت وسكون، وتسلقوا الصخور التي تكتنف الممر وتعلوه يمينا وشمالا، وأخذوا مكانهم على الصخور والأسوار والحيطان المشرفة عليه، ولم يتنبه المماليك بادئ الأمر إلى أن الباب قد أقفل، واستمروا يتقدمون متجهين إليه، ولكن لم تكد تبلغه صفوفهم الأولى حتى رأوه مقفلا في وجوههم، وأبصروا الأرناءود يتسلقون الصخور المشرفة عليهم، فتوقفوا قليلا عن المسير، وتضامت صفوفهم المتلاحقة بعضها إثر بعض، ولم تمض هنيهة حتى دوى طلق رصاص من نوافذ إحدى الثكنات، فكان هذا نذيرًا بإنفاذ المؤامرة، ذلك أنه لم تكد تلك الطلقة تُدوى في الفضاء حتى انهال الرصاص دفعة واحدة على المماليك وهم محصورون في هذا الطريق الغائر في الارض، فالباب الضخم مقفل في وجوههم، والجنود الأرناءود من ورائهم، ومن فوقهم، وعن يمينهم، وشمالهم، يتناولونهم برصاص بنادقهم وكان عددهم 470 مملوكًا»
ودارت المذبحة
لم يستطع المماليك دفاعًا عن أنفسهم، ولم يكن لديهم الوقت ولا القدرة على الحركة، أو الرجوع القهقري، أو النزول عن جيادهم، لضيق المكان الذي حصروا فيه، ولأنهم جاءوا الاحتفال من غير بنادق ولا رصاص، ولم يكونوا يحملون سوى سيوفهم، فانصب عليهم الرصاص، وحصدهم حصدا، وجاءهم الموت من كل مكان.ما سقطت الصفوف المكشوفة من المماليك تختبط بدمائها، أمكن للباقين أن يترجلوا عن جيادهم، وأرادوا النجاة بأنفسهم من تلك الحفرة المهلكة التي كانوا مكدسين فيها، فتسلق بعضهم الصخور المحيطة بالطريق بعد أن خلعوا ما كان عليهم من الفراوي والملابس الثمينة والثياب الفضفاضة ليسهل عليهم الفرار، ولكن الرصاص كان يتلقفهم أينما صعدوا، فلا تلبث ان تتساقط جثثهم في جوف الطريق، ومن هؤلاء شاهين بك الألفي الذي تمكن في عدة من مماليكه أن يتسلق الحائط وصعد إلى رحبة القلعة وانتهى إلى عتبة قصر صلاح الدين، فعالجه الجنود الأرناءود برصاصة أردته صريعا، واستطاع سليمان بك البواب أن يجتاز الطريق وجسمه يقطر دما، ووصل إلى سراي الحرم، واستغاث بالنساء صائحا (في عرض الحرم)، وكانت هذه الكلمة تكفي في ذلك العهد لتجعل من يقولها في مأمن من الهلاك ولكن الجنود عاجلوه بالضرب حتى قطعوا رأسه، وطرحت جثته بعيدا عن باب السراي، وتمكن بعض المماليك من الوصول إلى حيث كان طوسون باشا راكبا جواده منتظرا ان تنتهي تلك المأساة، فتراموا على أقدامه طالبين الأمان، ولكنه وقف جامدا لا يبدي حراكا، وعاجلهم الجنود بالقتل، وتكدست جثث القتلى بعضها فوق بعض في ذلك المضيق، وعلى جوانبه حتى بلغ ارتفاع الجثث في بعض الأمكنة إلى أمتار، واستمر القتل إلى أن أفنى كل من دخلوا القلعة من المماليك، ومن لم يدركه الرصاص ممن وقع تحت جثث الآخرين أوفر في نواحي القلعة أو تخلف عن الموكب، ساقه الأرناءود حيًا إلى الكتخدا بك فأجهزوا عليه ضربا بالسيوف، واستمر القتل من ضحوة النهار إلى هزيع من الليل حتى إمتلأ فناء القلعة بالجثث.
وهكذا دخل القلعة في صبيحة ذلك اليوم أربعمائة وسبعون من المماليك وأتباعهم، قتلوا جميعا، وأحكم محمد علي باشا تدبير المؤامرة، فلم يقف على سرها إلا إربعة من خاصة رجاله، وهم حسن باشا قائد الجنود الأرناءود، والكتخدا بك محمد لاظ أوغلي، وصالح قوش أحد ضباط الجند، وإبراهيم أغا حارس الباب، وصالح قوش الذي كان يقود كوكبة الجنود الأرناءود في الموكب، وهو الذي أمر باقفال باب العزب وأعطى إشارة القتل إلى رجاله.
وبينما كان صالح قوش يتأهب لتنفيذ المؤامرة كان محمد علي باشا جالسا في قاعة الاستقبال، ومعه أمناؤه الثلاثة، وقد ظل في مكانه هادئا إلى أن بدأ الموكب يتحرك، واقتربت اللحظة المشهودة، فساوره القلق والاضطراب، وساد القلعة صمت عميق، إلى أن سمع اطلاق أول رصاصة، وكانت ايذانا ببدء المذبحة، فوقف محمد علي وامتقع لونه، وعلا وجه الاصفرار، وتنازعته الانفعالات المختلفة، واخذ يسمع دوي الرصاص وصيحات الذعر والاستغاثة وهو صامت لا ينبس بكلمة، إلى أن حصد الموت معظم المماليك، واخذ صوت الرصاص يتضائل، وكان ذلك اعلانا بانتهاء المؤامرة، وعندئذ دخل عليه المسيو ماندريشي طبيبه الايطالي وقال له: «لقد قضى الأمر واليوم يوم سعيد لسموكم»، فلم يجب محمد علي بشئ، وطلب قدحًا من الماء فشربه جرعة طويلة، وخرج الكتخدا بك وأخذ يجهز على الباقين من المماليك.
موقف الأهالي
لم يكن أحد من سكان القاهرة يتنبأ قبل أن تقع المذبحة بما خبأ بين أسوار القلعة، فكانت العامة يعلوها الابتهاج محتشدة في الشوارع المعدة لسير الموكب تنتظر مروره، ولقد مرت طليعة الموكب بين جموع المتفرجين، وأخذ الناس يترقبون بلهف مرور الصفوف التي تليها، ثم انقطع تلاحق الصفوف، فعجب الناس وطفقوا يتساءلون عن السببط وذهبت أفكارهم في تفسير ذلك مذاهب شتى، وفيما هم ينتظرون قدوم الصفوف المتأخرة سمع المحتشدون في ميدان الرميلة الذي بأسفل القلعة صوت الرصاص يدوي في الفضاء بعد أن اقفل باب العزب، فسرى الذعر إلى الناس اذ وصل خبر المذبحة إلى الحشود القريبة من القلعة وصاح صائح: «قتل شاهين بك» وسرعان ما ذاع الخبر بسرعة البرق إلى مختلف الأنحاء، فتفرقت العامة وأقفلت الدكاكين والاسواق، وهرع الناس إلى منازلهم، وخلت الشوارع والطرقات من المارة، واعقب هذا الذعر نزول جماعات من جنود الأرناءود إلى المدينة يقصدون بيوت المماليك في انحاء القاهرة، فاقتحموها وأخذوا يفتكون بكل من يلقونه فيها من أتباعهم، وينهبون ما تصل اليه أيديهم، ويغتصبون من النساء ما يحملن من الجواهر والحلي والنقود، واقترفوا في ذلك اليوم واليوم الذي تلاه من الفظائع ما تقشعر منه الابدان، ولم يكتفوا بالفتك بمن يلقونه من المماليك ونهب بيوتهم واغتصاب نسائهم، بل تجاوزوا بالقتل والنهب إلى البيوت المجاورة، وبلغ عدد المنازل التي نهبوها خمسائة منزل، واصبح اليوم التالي (السبت) والسلب والنهب والقتل مستمر في المدينة، واضطر محمد علي باشا إلى النزول من القلعة في صحوة ذلك اليوم وحوله رؤساء جنده وحاشيته لوضع حد للنهب والاعتداء، فمر بالاحياء المهمة التي كانت هدفا لعدوان الأرناءود، وامر بقطع رءوس من استمروا في النهب والاعتداء، وكذلك فعل طوسون باشا.
قال الجبرتي: «ولولا نزول الباشا وابنه في صبح ذلك اليوم لنهب العسكر بقية المدينة وحصل منهم غاية الضرر»، وأمر محمد على الأرناءود بأن يقتصروا على القبض على المماليك الذين بقوا أحياء لتخلفهم عن الذهاب إلى القلعة في اليوم المشهود، وارسالهم إلى القلعة، فكان الكتخدا بك يأمر بقطع رءوسهم، ولم ينج منهم الا من هرب من المدينة مختفيا وهاجر إلى الوجه القبلي، وذلك صدر محمد علي أمره إلى كشاف المديريات باعتقال كل من يلقونه من المماليك وقتلهم.
أسماء المماليك
ذكر الجبرتي أسماء من لهم شهرة ممن قتلوا بالقلعة وبلغه خبرهم، وهم شاهين بك كبير المماليك الألفية، ويحيى بك، ونعمان بك، وحسين بك الصغير، ومصطفى بك الصغير، ومراد بك، وعلي بك، وهؤلاء من الأمراء الألفية، ومن غيرهم احمد بك الكيلارجي، ويوسف بك ابو دياب، وحسن بك صالح، ومرزوق بك ابن ابراهيم بك الكبير، وسليمان بك البواب، وتابعه أحمد بك، ورشوان بك، وابراهيم بك، وقاسم بك تابع مراد بك الكبير، وسليم بك الدمرجي، ورستم بك الشرقاوي، ومصطفى بك أيوب، ومصطفى بك تابع عثمان بك حسن، وعثمان بك ابراهيم، وذو الفقار تابع جوهر، ومن الكشاف (الحكام) علي كاشف الخازندار، ورشوان كاشف، وسليم الكاشف، وفايد الكاشف، وجعفر كاشف، وعثمان كاشف، ومحمد كاشف، واحمد كاشف الفلاح، واحمد كاشف صهر محمد اغا، وخليل كاشف،وعلي كاشف قيطاس، واحمد كاشف، وموسى كاشف.
ولم يبق من المماليك إلا عددًا ضئيلًا ممن بقوا مع إبراهيم بك الكبير وعثمان بك حسن اللذين لم يطمئنا من قبل لمصالحة محمد علي باشا وبقيا في الصعيد ومعهما ذلك الرهط من المماليك، ونجا أيضا من القتل عدا هؤلاء نحو ستين مملوكا فروا إلى سورية.
يقـدر عبدالرحمن الجبرتى، عدد من قُتل فى القلعة بأكثر من 500 مملوك، وحوالى 2000 آخرين فى عمليات القتل التى تبعتها فى طول مصر وعرضها، ونصب جنود محمد على، مصطبة أمام باب زويلة وعلقوا عليها رؤوس القتلى لتكون رادعا لمن تسوّل له نفسه تحدّي السلطة الجديدة التى كانت ما تزال فى بدايتها، وليعلنوا انتهاء عصر المماليك فى مصر.
رأي المؤرخين
رأى بعض المؤرخين تبريرها بقولهم إنه اضطر إليها دفاعا عن نفسه وأن المماليك كانوا يأتمرون به حين ذهب إلى السويس يتعهد شئون العمارة المعدة لنقل الحملة الوهايبة، ونمى إليه أنهم ينوون الفتك به عند عودته إلى القاهرة (فبراير سنة 1811) فخرج من السويس ليلا على غير ميعاد وأسرع في السير حتى دخل القاهرة ولما تحقق أنه لا يأمن فتك المماليك به وخاصة إذا أنفذ الحملة على الحجاز وخلت البلاد من الجنود اعتزم قطع دابرهم
لم تصادف مذبحة المماليك تبريرًا قويًا حتى من أصدقاء محمد علي المدافعين عنه وعن حكمه، فانظر مثلا إلى ما كتبه المسيو مانجان وهو صديق للباشا تراه تقول: «إنني ابعد ما أكون عن تبرير الفتك بالمماليك، على أنني أعده من بعض النواحي خيرا لمصر، فان بقاءهم يفضي إلى حرب هي أضر على البلاد من الايقاع بهم، كما أن ارادة الباب العالي كانت تؤدي إلى استمرار تلك الحرب، فالضربة الجرئية التي ضربها محمد علي تنفيذا لأوامر الباب العالي السرية قد قضت على نظام كانت تركيا تعمل على التخلص منه تدريجيا، ومن هذه الناحية يمكن تبرير عمل الباش، ومن جهة أخرى فان الدفاع عن سلامته كان يقضي أن يلجأ إلى طرق حازمة، فقد كان محاطا بجنود فطروا على الشغب والفوضى، وكان مضطرا إلى انفاذ جزء كبير من قواته إلى جزيرة العرب، فكان عليه ان يفكر في اضعاف خصومه الذين يزدادون في هذه الحالة قوة ونفوذا، فقد بلغه ما قيل انهم كانوا يأتمرون به ليختطفوه عند عودته من السويس، ولما علم ان السياح من الافرنج يلومونه في رحلاتهم وكتبهم على اغتيال المماليك ويعدونه عملا منافيا للانسانية صرح بأنه يبغي ان يرسم صورة يضع فيها مذبحة المماليك بجانب حادثة اغتيال الدوق دانجان ليحكم الناس على الحادثتين".
ويقول المسيو جومار وهو الذي جعله محمد علي باشا مديرا لأول بعثة مدرسية مصرية فى باريس، «لو أمكن محو تلك الصحيفة الدموية من تاريخ مصر لما صار محمد علي هدفا لأحكام التاريخ القاسية»، ومن جهة أخرى فان الفتك بالمماليك على هذه الصورة الرهيبة قد كان له أثر عميق في حالة الشعب النفسية، لأن مذبحة القلعة أدخلت الرعب في قلوب الناس وكان من نتائجها أن استولت الرهبة على القلوب، فلم يعد ممكنا إلى زمن طويل أن تعود الشجاعة والطمأنينة إلى نفوس الناس، والشجاعة خلق عظيم تحرص عليه الامم الطامحة إلى العلا، وهي قوام الأخلاق والفضائل القومية، فإذا فقد الشعب الشجاعة وحلت الرهبة مكانها كان ذلك نذيرا بانحلال الحياة القومية وفسادها، فالرهبة التي استولت على النفوس بعد مذبحة القلعة كان لها أثرها في اضعاف قوة الشعب الخلقية والمعنوية، وتلك خسارة قومية كبرى.