بطرس دانيال يكتب: العمل ضرورة إنسانية
يحث القديس بولس أهل تسالونيكى قائلًا: «ولَمَّا كُنَّا عِندَكم أعطيناكم هذه الوصيَّة مِرارًِا، وهى أنه إذا كان أحَدٌ لا يُريدُ أن يَعمَل فلَيسَ له أن يَأكُل» (١٠:٣). كم هؤلاء الذين يرغبون فى الحصول على كل شيء دون أدنى مجهود أو عمل؟ وما أكثر الذين ينتظرون خدمة الآخرين لهم دون أن يشمّروا عن سواعدهم! يا له من مشهدٍ غير معتاد ونستطيع أن نتأمله لساعاتٍ طويلة على شاطئ المحيط بالعاصمة الأفريقية توجو، وهو عبارة عن مجموعتين من الصيادين تلتقيان كثيرًا وتقومان بشد الشِباك، ولكن هناك مفارقتين: الأولى فى بُعد المسافة بين المجموعتين وكأن كل واحدةٍ تتجاهل شريكتها، وفى ذات الوقت نتخيّل أن كل واحدةٍ تقوم بعملها منفصلة عن الأخرى وكأّن هناك منافسة بينهما، ولكن مع التمحيص نكتشف أنهما مرتبطتان بنفس العمل، ولا يقتصر عملهما على شد الشِبَاك معًا نحو الشاطئ ولكنهما تقتربان حتى الوحدة بينهما، ونتيجة هذا نرى شباكًا مكتظة بكمياتٍ كبيرة من السمك. والمفارقة الثانية هى تكوين كل مجموعة بطريقةٍ متناسقة مع الأخرى من رجال ونساء وصغار وطاعنين فى السن وشباب قوى البنية، ونتخيّل فى هذا المشهد أن أهالى القرية كلّها موجودون على الشاطئ ويمسكون بالحبال التى تجر الشِبَاك. كما نجد الجميع منهمكين فى العمل دون استثناء، متحمّلين حرارة الشمس ونار الرمال. كل هذا يدل على العمل معًا من أجل قُوتِ يومهم الذى يتقاسمونه من حصيلة الصيد المشترك. نستطيع أن نترجم هذا فى حياتنا اليومية من خلال مسئولية كل فردٍ منّا فى العالم. نحن نمسك بحبلٍ كبير يمثّل عملنا اليومى والتزامنا، ومن المحتمل أن نكتفى بملاحظة جزء الحبل الذى بين أيدينا ونتخيّل أن كل شيء ينتهى هناك، أى عند مشاغلنا البسيطة، كلٌ حسب دوره فى المجتمع، ولكن الحبل لا يتوقّف عند الجزء الخاص بنا، ولكنه ممدود بين أيادى المليارات من البشر التى تتشبث به، وجميع أهالى تلك القرية يمثّلون العالم كله بمسئولياتٍ مختلفة. إذًا لا يستطيع أى شخصٍ أن يتهرّب من دوره فى جذب الحبل، لأنه يحمل عمل كل واحدٍ منّا للآخرين، كما أنه يُظهر مجهودنا أو توانينا، نشاطنا أو كسلنا، التزامنا أو رفضنا، مسيرتنا أو خروجنا عن الطريق. إذًا لا يستطيع أحدٌ أن يبرر كسله قائلًا: «ما قيمة عملى؟ من يشعر به؟ هل من الممكن أن يعتمد العالم على تعبى؟» مما لا شك فيه أن الجميع يلاحظون دورنا ويشعرون بإسهاماتنا أو إخفاقنا، فالجميع يتشبثون بهذا الحبل. لذلك يجب أن نعى بأن كل شخصٍ منّا له دور هام فى هذه القرية أى العالم الذى نعيش فيه، وهذا الحبل الغليظ لا يعنى أنه مسئولية شاقة لبرنامجٍ ما يخصنى بمفردى أو لتكرار نفس الالتزامات اليومية، أو نُعيد نفس البرنامج الأسبوعى بكل رتابة وملل؛ ولكنه الحبل الذى يربطنى بمليارات من الأشخاص المنتشرين فى كل المسكونة. إذًا كل عملٍ صالح أقوم به يعود بالخير على الآخرين، كما أن تكاسلى يُصيب الغير بالعدوى. هنا نتذكر ما حدث مع كسرى أنوشروان عندما شاهد فلاحًا عجوزًا يزرع صنفًا من الشجر لا يؤتى ثمره قبل أعوامٍ، فقال كسرى لذلك الرجل: «يا والدى العزيز! إنك تُتعب نفسك عبثًا لأنك لن تذوق ثمره!»، فكان رد العجوز: «لقد صدقت يا مولاي! ولكنهم غرسوا قبلنا فأكلنا، ونحن نزرع ليأكل مَنْ يأتى بعدنا!» فتعجّب كسرى من هذه النفس النبيلة وأمر بمكافأته، لكن الفلاح أجاب للتو: «هاأنذا جنيتُ ثمرة تعبى قبل الأوان». ما أنبل هذا الرجل الذى يُعتبر مثالًا يُحتذى به فى العمل دائمًا دون النظر إلى المنفعة الشخصية الحالية، ولكن نعمل ونجتهد لأن العمل رسالة كل فردٍ منّا حتى لو لم يكن فى احتياج، كما يجب أن نعمل بهدف منفعة الغير، لأن هناك حبلًا يربطنا جميعًا ونمسك به بأيدينا، إذًا واجبٌ علينا أن نفيد الغير بعملنا، مثلما نستفيد نحن من عملهم. كم من سعادةٍ ستغمرنا عندما نقوم بدورنا على أكمل وجه ونتمم واجباتنا المطلوبة منّا؟! علاوة على ذلك نربح احترام وتقدير الناس لجهودنا المبذولة واعترافهم بالجميل نحونا عندما يحين وقت الحصاد، إذًا لا نتمثّل بالإنسان الاتكالى الذى يُعتبر عالة تعيش من تعب الغير، الذى يقول عنه القديس فرنسيس الأسيزى مؤسس الرهبنة الفرنسيسكانية: «ذبابة تعيش من فضلات الغير». ونختم بكلمات سفر الأمثال: «لا تُحِبّ النومَ لِئَلاَّ تفتقر، افتَحْ عَينَيكَ تَشبَع خُبزًا» (١٣:٢٠).