د. رشا سمير تكتب: التعليم من الكتاتيب إلى السناتر..والنفخ في القربة المقطوعة !
ليس نقشا على الحجر، وليس كالماء ولا الهواء، ليس مجرد ورقة توضع في إطار وتعتلي الحائط..
بل هو مستقبل الأمم وعنوان التقدم ومقياس الرقي والتحضر.
أما في الشرق الأوسط أصبح مجرد محاولة لتجاوز الأزمات والخروج من قمقم التخلف والتقهقر الذي حبسنا فيه الغرب طويلا، فلم يعد بوسعنا الخروج من هذا الإطار الضيق إلا بالإرادة المعرفية.
إنه...التعليم..
والتعليم يا سادة ليس مجرد ملف ولا وزارة ولا تابلت ولا محاولات فارغة لوضع سياسة فاشلة لا تشبع ولا تسمن من جوع..التعليم هو صناعة بشر وخلق كيانات محترمة ونهضة وطن.
على مدار أجيال وقرون كانت هناك محاولات لإصلاح المنظومة التعليمية التي لا يدري سوى الله سبحانه وتعالى ماذا حدث لها؟ لماذا تقهقرنا بعد أن كانت مصر هي المنبع لتصدير مدرسين للجامعات والمدارس العربية في كافة أنحاء الشرق الأوسط..صدرنا المعلم ومعه القيم والثقافة والعلوم، فبات هناك جيلا من العرب يحلفون بحياة مصر ولازالوا يدينون بالفضل لمصر لأنها كانت نبراسا ومنارا لهم..ولو أنكروا لكتب التاريخ وأقر..
نعم، كنا وكان التاريخ...
ماذا حدث للتعليم؟
فجأة ودون مقدمات انهارت المنظومة التعليمية والإجتماعية والثقافية وبالتالي الأخلاقية، إنهارت في كافة أنحاء العالم بسبب تردي كل شئ، ونلنا نحن المصريون النصيب الأكبر من هذا الإنهيار، لأسباب كثيرة منها الكثافة السكانية والحالة الاقتصادية والاهمال المتراكم الذي جعل هذا الملف بعيدا عن أعين الدولة لسنوات طويلة، ثم تفاقم الوضع في السنوات القريبة الماضية بشكل مذري ولعوامل عدة، تحكم فيها تدهور المنظومة التعليمية بدءا بمحتوى المناهج ومرورا بالمنشآت التعليمية ثم بمستوى المعلمين ووصولا للطالب الذي أصبح يتخرج من المدرسة أٌمي بالمعنى الحرفي للكلمة!..
طالب في المرحلة الإعدادية ولا يستطيع كتابة إسمه، جامعي في كلية مرموقة ولا يفقه شيئا عن اللغة العربية، ذاك يحمل درجة البكالوريوس ولا يعرف من هو سعد زغلول! حتى وصل بنا الحال إلى درجة أن بعض الشباب يظن مكرم عبيد أحد مطربي المهرجانات!.
الكليات العملية مثل الطب والهندسة أصبح معظم خريجيها يحملون شهادات ولا يحملون الطموح ولا المهنية ولا القدرة على إرتقاء سُلم النجاح، إلا من رحم ربي..
الحكاية طويلة، جذورها ضاربة في الأرض وأفنانها تعانق السماء، ودعوني دائما كما عودتكم أن أعود إلى أصل الحكاية والتي عادة ما تبدأ من هناك..
علنا نتذكر..فنتعلم..
محمد علي ورفاعة طهطاوي:
اهتم محمد علي باشا بإرسال بعثات إلى أوروبا لتطبيق السياسات التعليمية هناك، اختار محمد علي رفاعة طهطاوي ليفده إلى باريس حيث اقام لمدة خمس سنوات من عام ١٨٢٦ وحتى ١٨٣١، حيث إلتقى بجومار مؤلف كتاب وصف مصر، الذي جعله بدوره يقابل العديد من الشخصيات في مجال الادب والفن والعلوم الاجتماعية وبعض المستشرقين الذين أرسوا بداخله عظمة الشرق وحضارته بمفاهيم جديدة ومن منظور مختلف.
عقب رحلته الطويلة، أعد رفاعة تقرير عن الاصلاحات الواجب اتخاذها نحو التعليم الجامعي والثانوي حيث اتخذه مرجعا لم يحيد عنه، كما طالب رفاعة بدخول مواد عن الاقتصاد والتاريخ داخل تعليم الازهر حتى لا يصبح منصبا في الدين فقط، هنا كانت بداية الإصلاح والرؤية الإستشراقية.
كما طالب بفصل الدين عن الدولة ونادى بتحرير المرأة وهو ما أثار حفيظة العديد من المصريين أنذاك.
كان من نتائج بعثة رفاعة طهطاوي إلى فرنسا ان شجعت الحكومة إنشاء تعليم ثانوي قوي في مصر وطبقت الطرق الفرنسية في التعليم واتجه نحو الثقافة الفرنسية، كما اشتركت الارساليات الدينية الفرنسية بصورة فعالة في التعليم، فوصلت أخوات سان فانسان دي بول saint vincent de paul إلى القاهرة عام ١٨٤٤م وتلاها مدارس الفرير والجيزويت jesuites التي افتتحت مدارس على نفس مستوى المدارس الفرنسية كوليدج college، والتحق بها الأغلبية الساحقة من صفوة المصريين واستمر هذا الوضع قائما حتى الحرب العالمية الثانية من ١٩٣٩-١٩٤٥م
ثم قام احد تلاميذ رفاعة طهطاوي وهو علي مبارك الذي صار وزيرا للمعارف العمومية فيما بعد بإنشاء التعليم في مصر حسب النظام المتبع في فرنسا: ابتدائي وثانوي وعالي،
ثم انشأ دار الكتب على نفس نمط المكتبة الوطنية في باريس، أما المعهد المصري الذي أسسه نابليون بونابارت فقد تابع ابحاثه،
وإذا كان محمد علي باشا مبهورا بالثقافة الغربية وبالتحديد الفرنسية فإنه ابدا لم يتجاهل ثقافة بلده بالتبني، وعلى نقيض الاتراك الذين كانوا يظهرون نوعا من الاحتقار لمواطنيهم، فإنه اعتبر نفسه مصريا وكان يكن إعجابا شديدا بأمجاد الفراعنة، واهتم بتدريس تاريخ مصر الذي يدعو للفخر.
تلك كانت رحلة محمد علي باشا مع نهضة تعليمية حقيقية أخرجت أجيالا مختلفة في مصر.
الخديوي إسماعيل وخطوات لإستكمال الطريق:
كان الخديوي اسماعيل صاحب مقولة:
" أن قوى الجسم الاجتماعي لا تصان وتجدد إلا بنظام منطقي للتربية والتعليم"
ومن ثم أعاد فتح المدارس التي كانت قد أغلقت وكان قد بعثها برعاية من لدن الحضرة السلطانية وأنشأ معاهد جديدة، أوفد البعثات إلى جميع أنحاء أوروبا للاطلاع على العلوم والفنون والصناعة والأداب، كما افتتح مدارس الطب والهندسة والفنون والصناعات ومدرسة الألسن والإدارة كما أفتتح مدرسة الإيجيبتولوجيا لتعليم الهيلوغريفية واللغة الأمهرية (الحبشية)
كذا كرس جهوده لإصلاح الأزهر الشريف ومكافحة الأمية وخصوصا بين صفوف الضباط وصف الضباط إيمانا منه بأن القوة يجب أن تتكامل مع العقل.
أقلع اسماعيل باشا عن المعتقدات البائسة المتأصلة منذ قرون وقرر أن يكف عن حرمان المرأة من التعليم وأصبح تعليم البنات في موضع أقرب لعناية حكومته، وأنشأ مدرسة للفتيات المسلمات.
وأنشئت في العباسية، مدرسة أولية، ومدرسة إعدادية، خلاف العديد من المدارس العسكرية والحربية، وتلاها إنشاء مدرسة هندسية ملكية كبرى، عرفت باسم «المدرسة البوليتكنيك» أحضروا إليها الأساتذة من فرنسا ومن ضمنهم المسيو چليون دانجلار، صاحب الرسالات الممتعة عن مصر ما بين سنة ١٨٦٥ وسنة ١٨٧٥، من الذين تعلموا بفرنسا على نفقة الحكومة، إيمانا من الخديوي بدور المدرس وقيمة مضمون فاقد الشئ لا يعطيه، ومن هنا أصبح وجود المعلم القادر على إحداث تغيير هو اللبنة الحقيقية لإرساء تعليم قوي.
كما كانت المجانية هي أساس التعليم، في هذه المدارس كافة، بل وتشمل الكسوة والطعام أيضًا، فالتعليم لا يصح أن يكون سلعة مدفوعة الأجر..فالتعليم كما عرفه الحكام الأوائل هو واجب الدولة نحو شعبها.
التعليم اليوم والرسالة الفارغة:
تبدل حكام وتغيرت سياسات وفجأة تردى كل شيء، إعتلى الصدأ العقول قبل الفصول، وأصبحت الحصيلة صفر، يذهب وزير تربية وتعليم ويأتي آخر ويبقى حلم الأهل مع كل تغيير وزاري أن يأتي من يستطيع إستكمال الطريق، لكن وللأسف، تحول الطلاب إلى فئران تجارب..
جاء الوزير الذي قرر إلغاء سنة سادسة، وجاء من أعادها، وجاء من أراد جعل الثانوية العامة دون شعبتيها فلا علمي ولا أدبي، وجاء من أفتى بأن الإلتحاق بكليتي الفنون الجميلة والتطبيقية لن يكون له علاقة بالمجموع، وجاء من جعل المجموع في شكل تراكمي، وجاء من ألغى سنة أولى حضانة وجاء ورائه من أعادها!
يعني بإختصار شالوا ألضو جابوا شاهين وماحدش قال ماحناش لاعبين!.
مؤخرا جاء د.طارق شوقي بشهاداته وأفكاره الجريئة مقررا أن يتحدى ويحارب ويشهر سيفه دون خوف، ولكنه وقع في يد من لا يرحم..(جروب الماميز)!.
وما أدراك ما جروب الماميز؟!..إنه الجروب الذي أفسد الرياضة في مصر كما أفسد التعليم، بتدخلات قهرية ومناقشات سفسطائية وحروب وكيد نساء لا ينتهي..
أصر الرجل على تحويل المنظومة من ورق ودرجات وترديد أعمى مثل الببغاوات إلى محاولة للفهم، طرح فكرة بنك المعلومات والبابل شييت والتابلت ونسى أن أغلب المدارس لا تمتلك الكهرباء لشحن التابلت!.. كما نسى أن الأهل يحتاجون إلى إعادة تأهيل وشحن أيضا ليتعلمون فيصبحون قدوة لأبنائهم.
حارب الدروس الخصوصية وأطلق الرصاص على مافيا السناتر، ثم...
ثم ذهب كما جاء، في تعديل وزاري محدود راح كما راح الآخرون، بلا سبب أو تبرير..
هل أخطأ؟ هل أصاب؟ هل كان على حق أم كان على باطل؟ العلم عند الله..
ثم جاء الوزير الجديد من المكتب المجاور للدكتور طارق، أو بالأحرى نائبه..من جديد ضرب الأهالي كفا على كف، فمنهم من وزع الشربات وأطلق الزغاريد ومنهم من أدرك خسارة الموقف..تُرى ماذا يحمل الجديد في جعبته؟
وهنا أتسائل..لماذا لا نأتي بمنظومة تعليمية متكاملة نجحت في الخارج ونطبقها في الداخل مع تعديل ما يليق بنا ويتوائم مع قدراتنا؟ لماذا لا نضع منهجا يسلمه كل من يمضي لمن يأتي خلفه وليبني فوقه كل من يتحمل المسئولية من جديد فيعلو البنيان؟..
وجاءتني الإجابة قبل أن أفكر كثيرا..
في تصريح مختلف، صرح د.رضا حجازي بمنح رخصة مزاولة مهنة التدريس للسناتر وإسناد مجموعات التقوية لشركة خاصة تديرها، وأضاف بأن فاتورة الدروس الخصوصية في مصر تصل إلى 47 مليار جنيه سنويا، ولا تعلم الحكومة أو الوزارة عنها شيئا!..
هنا تذكرت مروري اليومي أمام أحد السناتر الشهيرة بمدينة نصر ومنظر أولياء الأمور وهم يتراصون في الشارع بؤساء، مكفهرين لساعات طويلة في إنتظار أبنائهم، وجبروت صاحب السنتر الذي جعله ينتصر على سكان الحي الذين إشتكوه لرئاسة الحي ولم ينجحوا البتة في نقل السنتر بعيدا عن بيوتهم حتى يستطيعوا العيش كأدميين (يعني لا أهالي العيال سلموا ولا حتى أهالي الحي!).
إذن التصريح مُفاده أننا سنقنن الفساد، سنقنن البلطجة، سنقنن معاناة أولياء الأمور، سنقنن عدم جدوى التعليم المجاني، سنقنن فشل الوزارة عام بعد عام..
هنا أدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح والغير مباح..
النهاية وعلها البداية:
اسمحوا لي في نهاية المقال أن أذكركم أن التعليم في مصر هو السبب الرئيسي في المنظومة الإدارية الفاشلة، وهو السبب في عدم وجود صف ثاني وثالث لتولى المقاعد الفارغة والوظائف الشاغرة من بعد رحيل الكفاءات، وسبب التماثيل المشوهة المتناثرة بكل فخر في شرم الشيخ ومحافظات مصر كمحاولة فاشلة للترويج لسياحة لن تأتي أبدا!، وسبب ما يلاقيه السائح من أهوال منذ هبوطه إلى مطار القاهرة وحتى عودته إلى بلده.
وسبب التعدي على أفكار وإبداع الأخرين من أول الفتاة المتبجحة التي سرقت رسومات رسام عالمي ونسبتها إلى نفسها وحتى سرقات رسائل الدكتوراة، التعليم هو سبب إنحدار المستوى الفكري والثقافي للشباب، والسبب في ظهور كائنات فضائية في شكل إعلاميات وفاشونستات وإنفلونسرز قادرين على التأثير السلبي المنحط على المجتمع بأسره.
التعليم هو أصل كل الإبتلاءات والإنجازات..أفلا تعقلون؟!.