د. أحمد أبو رحيل يكتب: التهيئة المعرفية للمواطنيين
تلعب وسائل الإعلام والاتصال دورًا كبيرا ومحوريا فى بناء المجتمعات وتكوين فكر أبنائها وتثبيت عقلياتهم فى قوالب محددة، ولايحفى على أحد من المهتمين بالشأن العام أو حتى المتابعين لقضايا وأحوال معيشتهم وأمور بلادهم أن وسائل الإعلام والإتصال من أهم الأدوات التى تستخدمها أنظمة الدول فى ترسيخ نظم حكمها وتثبيت مقاليد السلطة الخاصة بها وخاصة أن أنظمة الدول فى ظل النظام العالمى الجديد لا بد وأن تتمتع بظهير شعبى يساعدها على تحسين صورتها أمام معارضيها، حيث إنه من وظائف الظهير الشعبى الذى تكونه وسائل الإعلام تأصيل الفكر والأيديولوجية التى تنتهجها الدولة فى مجتمعها التى تحكمه أو التى تحاول السيطرة عليه كما أن هذا الظهير الشعبى مهم أيضا فى ظل الديمقراطية الجديدة التى تحاول الدول رسمها أمام النظام العالمى والمؤسسات الدولية للحصول على بعض المكاسب أو امام المواطنيين العاديين الذى تطحنهم كل يوم أعباء الحياة أو لإكتمال المشهد السياسى السليم امام المجتمع الخارجى، ولا سيما أن النظام العالمى يتيح للجميع الأدلاء بالرأى والنقد والتحليل والإستفسار كما إنه يفرض ضرورة إتاحة المعلومات والبيانات ونشرها ويفرض على الدول أن تقر فى دساتيرها أن توفر ذلك.
والأداة الإعلامية التى تستخدمها الدول فى نشر مفاهيمها وسياستها تعتبر من أهم وأخطر الأدوات التى تعتمد عليها النظم السياسية حيث إنها أداة قوية فى نشر إنجازات الأنظمة وإبازها للرأى العام سواء الدولى أو الاقليمى أو المحلى، والأداة الإعلامية هذه هى عنصر من عناصر عملية الاتصال؛ حيث تتكون عناصر أى اتصال إنسانى من مجموعة من العناصر على رأسها المرسل وهو الشخص الذى يقدم المعلومة، والوسيلة وهى الأداة التى تقدم من خلالها المعلومة، والمستقبل الذى تقدم له المعلومة وهو أيضا الهدف من عملية الإتصال برمتها وتغيير فكره نحو شىء أو اقناعه بشىء هو الهدف المنشود من وراء عملية الاتصال أو التواصل.
والحقيقة أن الوسائل الإعلامية قديمًا كانت تهدف إلى شغل أوقات الفراغ واللهو والترفيه حيث كان هناك من يعتبر أن مشاهدة هذه الوسائل ضمن الهوايات التى يفضل الناس ممارستها؛ ولكن مع تطور العالم وتطور الصراعات وأصبح العالم قرية صغيرة فى ظل العولمة والتقنية الفائقة والشركات العابرة للحدود وخاصة مع الامبريالية؛ أصبح هناك غايات محددة وأهداف مرسومة ومخططة الوصول إليها من وراء هذه الوسائل الإعلامية غير الترفيه وشغل وقت الفراغ، حيث أصبح هناك أهداف إقتصادية وسياسية واجتماعية من وراء هذه الوسائل وجميعها تنصب تجاه الإنسان المتلقى لتغيير فكره وتشتييت رأيه أو كسب تأييده أو على حسب الهدف المطلوب تحقيقه سواء كان هذا المتلقى فرد أو جماعة أو تنظيم أو مجتمع مجلى أو مجتمع على المستوى الأكبر، كماإنه يمكن استخدام الأدوات الإعلامية من جانب دول ضد دول أخرى كما حدث فى ثورات الربيع العربى حث تركز هذه الدول على سلبيات الدول الاخرى وتحاول إظهار صورتها أمام شعبها فى صورة غير لائقة.
لذلك اهتم علماء السياسة والاعلام بوضع مجموعة من النظريات التى تساعد الأنظمة الحاكمة على تحقيق أهدافها وتوصيل رسالتها إلى ترغب فى توصيلها بنجاح؛ ومن بين هذه النظريات نظريات التأثير المباشر على المستمعين أوالمشاهدين، ونظرية التعلم، ونظرية الإتساق المعرفى والوجدانى إلا أن هناك نظرية أخرى تستخدم فى مجال الاعلام السياسى حيث يمكن للمشاهد المدقق أن يلاحظ استخدامها عند مشاهدة برامج التوك شو حتى وإن لم يعرف مسماها العلمى ولكن يلاحظ بكسب استخدامها وهى نظرية "التهيئة المعرفية" cognitive priming" theory " وهي النظرية التي قدمها كل من شانتو اينجار ودونالد كايندر 1987 في كتابهما الأخبار المهمة، حيث انطلق اينجار وكايندر من أن التهيئة تعني إبراز شيء ما وإعطائه أولوية على غيره في لحظة معينة، وتفعيل مثير ما من المثيرات الكامنة وجعله أكثر نشاطا مقارنة بغيره من المثيرات، لذا تعتقد هذه نظرية أن "الإبراز" و"إعطاء الأولوية" و"التفعيل" هي من أهم تأثيرات وسائل الإعلام لا سيما في المجال السياسي.
وعليه يقوم الفرض الرئيسي لنظرية التهيئة المعرفية على أن التغطية الإعلامية من خلال تركيزها على بعض الأمور وتجاهلها للبعض الآخر تؤثر على المعايير والمحكات التي على أساسها يبني الأفراد تقيماتهم وأحكامهم حول الرؤساء، الحكومات... فعلى سبيل المثال عندما ركزت وسائل الإعلام الأمريكية على الحرب الأمريكية على العراق لتحرير الكويت وعلى دور بوش الأب فيها، تم اتخاذ معيار "الاداء في الحرب" محكا لتقييم بوش، مازاد من شعبيته، وبعد انتهاء الحرب ركزت وسائل الإعلام على الأداء الاقتصادي لإدارة بوش الاب، وكونه أداءا ضعيفا اتخذ الافراد هذا المعيار محكا للتقييم ما ادى إلى إنخفاض شعبيته، كما حاولت دول الغرب تهيئة ششعوب العالم بأن روسيا هى الدولة الطاغية والمستبدة فى الحرب على اكرنيا واستخدمت فى ذلك كل مالديها من امكانيات، واستخدمت إدارة أباما نظام الرعاية الصحية "أوباما كير" لتحقيق النجاح فى ولايته الثانية فى الحكم وهكذا يتم استخدام هذه النظرية على حسب الهدف المنشود.
وتقوم نظرية التهيئة المعرفية على مجموعة من الأسس التي قدمها كل من اينجار وكايندر والمستوحاة من علم النفس المعرفي وهى :
ــــ الأفراد لا ينتبهون لكل المثيرات في البيئة المعلوماتية المحيطة بهم، فانتباهم انتقائي للغاية.
ــــ الأفراد يفضلون إستخدام المسارات المعرفية المختصرة عن الاستغراق في التفاصيل.
ــــ الافراد لا يصدرون قراراتهم وأحكامهم ولا يكونون تقيماتهم وفق كل المعلومات التي لديهم، وإنما يصدرونها ويكونونها في ضوء المعلومات الأكثر بروزًا لهم والأكثر قابلية للاسترجاع عندهم.
وبالتالي فإن هذه النظرية مهمة لدراسة تأثير وسائل الإعلام على معايير تقييم السياسات والحكومات وعلى توجيه مدراك الافراد واحكامهم.
وفى مجتمعاتنا نلاحظ هذه النظرية بوضوح عندما تحاول النظم استحداث قانون معين فنجد الفزاعة التى تبذل قصارى الجهد من اجل ايضاح مميزات هذا القانون واخفاء عيوبه وعدم الحديث عنها لذلك افتقدنا فى بيئاتنا ومجتمعاتنا الاعلام الموضوعى الذى يعتمد على المنطق والموضوعية والذى يعمل على ابراز وطرح الرأى والرأى الآخر فالإعلام اما مع أو ضد لذلك فقد الاعلام فى بيئاتنا المصداقية لدى الكثير من الناس واصبح الافراد يبحثون عن اعلام بديل.
لذلك يجب أن ننوه قى نهاية هذه المقالة على أن الاعلام أداة ضرورية وهامة ولاغنى عنها، ولكن يجب أن يكون تحت قيادة مهنيين متخصصين وليس فزاعة لجهة معينة أو ضد جهة معينة، كما إنه يجب أن نشير أيضا إلى أن الهدف من هذه المقالة ليس أكاديمى وإن كان لامانع من ذلك ولكن الهدف أن يتثنى لنا أن ننتبه ولاننجرف وراء البوق الاعلامية دون تفكير وإمعان وأن نعلم إننا قد نكون السلعة التى تحاول الوسائل الاعلامية الحصول عليها فننتبه قبل فوات الأوان.
حفظ الله مصر... حفظ الله عقول أبنائها