د. رشا سمير تكتب: أجاثا كريستي..وجريمة ثانية في النيل
كانت أجاثا كريستي وقتها في السابعة عشر من عمرها، بعدما إنتهت من دراستها في باريس، ونتيجة لصحتها المعتلة أنذاك، نصحها الأطباء بالذهاب إلى مكان دافئ تقضي فيه الشتاء بعيدا عن البرد القارس لأوروبا، ووقع إختيار والدتها على القاهرة الساحرة..
هناك على ضفاف النيل، إجتمع عشقها للغموض مع عشقها للآثار وسحر مصر..فكانت أولى رواياتها بعنوان (جليد يتساقط فوق الصحراء) والتي كانت تروي فيها تجربتها بفندق الجزيرة بالقاهرة، إلا أن هذا الكتاب لم يخرج يوما إلى النور، لأن الناشر رفض النص!.
في عام 1926 ودون إنذار قرر زوجها بعد 11 عام من الزواج أن يطلقها، وماتت أمها، في هذا التوقيت تمزقت الكاتبة وتحطم وجدانها، واختفت عن العالم لمدة عشرة أيام، قامت فيها الدنيا للبحث عنها دون جدوى، وحين ظهرت من جديد قررت أن تتحول من مجرد كاتبة هاوية إلى كاتبة محترفة..وهنا بدأ مشوارها الأدبي الكبير، فرب ضارة نافعة.
في عام 1933 إرتحلت أجاثا من جديد بالباخرة حيث رست في الأقصر وأسوان ونزلت بالفندق العريق (أولد كاتاراكت) الذي إفتتح عام 1902، ولازال محتفظا حتى اليوم بالمكتب التي كانت تجلس عليه حينما كانت تختلي بنفسها لتكتب، ووضع يافطة بإسمها على الغرفة، ليتحول هذا الفندق الخلاب إلى جزء لا يتجزأ من تاريخ مصر.
في هذا المكان وفي هذا المناخ كتبت أجاثا كريستي رائعتها الشهيرة (جريمة في النيل) والتي تحولت إلى فيلم سينمائي في عام 1978، هذا الفيلم تم تصويره على ضفاف النيل، ما بين الأقصر وأسوان وكان سبب كبير في أن يتعرف العالم على أجمل بقعة من بقاع الأرض..أسوان الجميلة بل ونال فندق أولد كاتاراكت الساحر العريق المزيد من الشهرة من خلال هذا الفيلم..
للمرة الثانية تم تصوير فيلم (جريمة في النيل) وإعادة عرضه على شاشات السينما من جديد في مطلع هذا العام، الغريب أن الفيلم هذه المرة لم يتم تصويره في مصر، وبحسب ما قاله المخرج أن التصوير تعثر في مصر بسبب صعوبات لم يذكرها، مما دعاه إلى اللجوء لفكرة التصوير في صحراء المغرب، إلا أنه قبل تصوير أول مشهد، قرر صُناع الفيلم الإكتفاء بالتصوير داخل المملكة المتحدة، ومما لا شك فيه أن التكنولوجيا التي واكبت صناعة السينما اليوم جعلت من السهل أن يتم التصوير بتقنية لا يلزمها أن تكون في نفس مواقع التصوير وبشكل أفضل.
لا أعلم طبعا طبيعة الصعوبات التي جعلت لجنة التفاوض التي شكلتها مصر ترفض تصوير هذا الفيلم على ضفاف النيل، إلا أن الشئ الوحيد المؤكد أن فيلم بهذا الإنتاج الضخم، مقدر أن يشاهده ملايين كان كفيل بعمل دعاية سياحية ضخمة لمصر، على غرار تصوير فيلم علاء الدين للمصري مينا مسعود الذي تم تصويره في الأردن والذي صنع دعاية ضخمة للأردن ومن قبله فيلم إنديانا جونز.
الدعاية التي تقوم بها وزارتي السياحة والآثار والهيئة المصرية العامة للإستعلامات طوال العام لن تكون كفيلة بجلب سياح للقاهرة مثلما كان سيفعل فيلما تم كتابته في مصر من الأصل.
الدعاية السياحية التي صنعتها دبي لنفسها من خلال تصوير إعلانات لفنانين أجانب مشهورين مثل توم كروز وزاك أفرون وجيسيكا ألبا، كلفتهم ملايين الجنيهات ولكنها كانت كفيلة بوضع دبي على خارطة السياحة العالمية، فما بالكم بدولة كل ذرة رمل فيها تحكي حضارة ألاف السنين..والفرصة جاءت إلينا على طبق من فضة لإستغلال هذا الفيلم لعمل دعاية مجانية، دون أن ندفع مليما واحدا!.
إسمها صناعة السياحة، فالسياحة ليست مهنة وليست وزارة وليست حفنة آثار بل هي صناعة قائمة بذاتها كفيلة بأن تبني إقتصاد الدول وتمنحها مكانة عالمية لتفتح أبواب كثيرة.
نحن في حاجة إلى هذه الدعاية التي من الممكن أن نستعين للنهوض بها بكقاءات لهم القدرة على التفكير ومواكبة متطلبات العصر في لجان التفاوض بدلا من التعنت والرفض بلا مبرر حتى لا تضيع منا فرصا ذهبية مثل تلك التي ضاعت من خلال هذا الفيلم.