أسامة مدني يكتب: الشرور الهائمة
أين تشكّلت هذه الهوّة السّحيقة؟ هذا اليم الدّفين الحالك السّواد؟ من أين أتت أمواج الشرور الكامنة، المتربصة، الهالكة المُهلكة؟ كيف استجمعت قواها الهادرة في النفس الضعيفة الفانية؟ كيف تسكن جسدًا أبدعه الخالق "في أحسن تقويم"؛ تشكّل "في صورة الرب" عِبرةً للعالمين؟ ولماذا هذا العنفوان الهادر لهذه النفس "الأمارة بالسوء"؟ كيف لها بالسّلب والنّهب وسفك الدماء؟ باستباحة المال والعرض وسمعة الأبرياء؟ بتحيّن الفرص للإنقضاض بلا رحمة أو رجاء؟ كيف ولماذا ومتى ومن أين نبت هذا الوحش الكامن في النفس "الراضية المُرضية"؟ ألا من سبيل لترويضه؟ لكبح جماحه؟ بالأخلاق الحميدة حاولنا، بالدِّين القويم ثابرنا، بالنّصح والإرشاد المرة تلو الأخرى كررنا. لكنه سريعًا ما يرتد، وحشًا أكثر ضراوة عن ذي قبل؛ أكثر فتكًا وافتراسًا لدماء الأبرياء الساكنين المستكينين.
أيتها الشرور الهائمة من أمامنا ومن خلفنا، ألم يطرحك الخير أرضًا المرة تلو الأخرى؟ ألم يستدرجك حتى استفحلت قواك ثم روّضك وأرسلك عائدة إلى هوّتك السحيقة السوداء في أطراف الكون المديد؟ ألم يقف حارسًا أمام قفصك المُحكم مانعًا أذرعك الفتّاكة من التهام الأبرياء المطمئنين؟ أما آن لك أن ترفعي الراية البيضاء؟ أن تُعلني الخضوع والاستسلام؟ أن تُقدمي فروض الطاعة والولاء لأمير الخير ورافع لواء السلام؟ أم أن العناد من خصالك؟ والرغبة في الانتقام من طباعك؟ وأن الحق والخير والجمال قيم ليست من نسيج شيطانك؟
لكننا لن نرضخ لك أبدًا أيتها الروح الحارقة المُحرقة. فالخير لن يكتمل إلا بك، لن يزدهر إلا بك، لن يطوف ويحوم ويحتوى البشرية إلا بك. وأنتِ لن تحيي إلا بالخير، لن تتقلصي إلا به، لن تزولي وتفني وتندثري إلى غير رجعة إلا به. حتى وإن كنت حيّةً غاوية فما زلنا هنا، حتى وإن كنت نارًا ك أو ية فما زلنا هنا، حتى وإن سلبتينا الفردوس برهةً فما زلنا هنا، حتى وإن لَوَّثَتْ يدي قابيل بالدماء فما زلنا هنا، حتى وإن تجسّدت في أبي جهل وأبي لهب ويهوذا فما زلنا هنا. حتى وإن كنّا مستضعفين فلن نرضخ، حتى وإن كنّا فانين فلن نهلك. لأن كلًا سيكون علي ما يرام؛ كل طبائع الأمور ستكون علي ما يرام. فالمجد للخير في كل مكان وزمان. المجد للخير مهما اشتدّ البأس وهامت الشرور والأحزان. فنحن هنا. كنّا وسنظل مثابرين، صامدين مهما كانت الآلام. فالمجد لنا لأن كل آمن، مطمئن، أمين؛ يتجسد فيه الحب والخير الوفير.