أمين "البحوث الإسلامية": استخدام العقل فيما وراء الطبيعة لا أمن منه أو عليه
قال الدكتور نظير عياد، الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية، إن اختيار عنوان ملتقى صناعة التنجيم والتطرف الفكري، (الأبراج والتنجيم بين العرف والشرع والفلك)، جاء للتأكيد على عدة حقائق مهمة تتمثل في احترام العقل وتوقيره وتقديره وبيان حدوده، منزلة العرف في الشريعة الإسلامية، ودور العلوم التجريبية وما يمكن أن تسهم به في واقع الناس.
وأوضح عياد، خلال كلمته في ملتقى صناعة التنجيم والتطرف الفكري (الأبراج والتنجيم بين العرف والشرع والفلك)"، أن الله تعالى خلق الإنسان وأنعم عليه بنعمة العقل، وجعله به ومن خلاله سيد الكون، وبه ومن خلاله حمل أمانة التكليف التي عرضت على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وفضلا عن هذا فإن الله تعالى أعطاه مكانة عظيمة في كتابه، ويكفي هذه الدعوات المتتالية تصريحًا وتلميحًا إعلاء لشأنه وإقرارًا بمكانه فهو موضع التأمل والنظر والاعتبار، وهو موضع التمييز بين الصواب والخطأ، وهو مصدر الأحكام والإحكام.
وأكد عياد على أن الله تعالى دعا إلى إعمال العقل ونهى عن التقليد الأعمى المذموم، وإلا كان المقلد كالحيوان بل أشد، مشيرًا إلى أنه نظرًا لطبيعته وقدره كان واحدًا من مصادر المعرفة؛ إذ أن مصادرها ثلاثة: الأخبار الصادقة – الحواس السليمة – العقول المستقيمة.
وتابع: للعقل معارف يصل إليها ويدلي فيها، ويضع فيها أحكامه، ولا يعني هذا انفصالا بينه وبين النقل، فالعلاقة بينهما وثيقة ومستقيمة ولا يستغنى بواحد منهما عن الآخر.
وأوضح عياد، أنه على الباحث أن يقوم بمراعاة عدة اعتبارات بين النقل والعقل حتى لا يؤدي ذلك إلى التناقض أو الاضطراب، وهذه الاعتبارات متعددة، فمنها:
الاعتبار الأول من حيث دائرة الاختصاص، فمن المعلوم أن للمعرفة طرقًا متعددة نظرًا لتعدد مصادرها، وهذه الطرق هي "الحواس السليمة، العقول النقية، والأخبار الصادقة" وهي الوحي.
وهذه الطرق الثلاثة للمعرفة ينبغي عدم الغلو في إحداها على حساب الباقي، فلكل طريق دائرته الخاصة به التي ينبغي الالتزام بها وعدم دخوله فيما ليس من اختصاصه.
وتابع: إن الأولى وهي: "دائرة الحواس، وهذه تختص بعالم المشاهدة والمادة، والثانية: دائرة العقل التي تبدأ من حيث تنتهي دائرة الحواس، ويقوم بعملية الربط بين الجزئيات بعد تلمس العلل والأسباب، ويأخذ من تلك الجزئيات كليات مجردة عن المادة، والدائرة الأولى تعد مقدمة للثانية، والثالثة دائرة الوحي: وهي المحيط الذي لا شاطئ له ولا يعلم مداه إلا الله، ولا يستطيع العقل أن يجاريه في الغيب المجهول، ولكن يكون تابعًا له، ومتبعًا لهدايته في إدراك الحقائق الغيبية، لأن العقل محدود وله مدى لا يتعداه".
وأكد أمين البحوث على أن استخدام العقل فيما وراء الطبيعة لا أمن منه أو عليه، فالعقل الإنساني فيما وراء الطبيعة لا يأتي بيقين "لأن العقل لا يستطيع أن يأتي بيقين إذا اجتاز مرحلة الإنسان ودائرته الحسية إلى دائرة أعلي منها فوقها، وكل ما يأتي به عندئذ لا يخرج عن الظن والتخمين، إذ العقل بحكم أنه محدد بالبيئة وبالمكان والزمان والثقافة الخاصة والجو الطبيعي والاجتماعي والسياسي لا يستطيع أن يأتي بيقين عن الموجود غير المحدود، وهو الله... ولذلك لا يستطيع الموجود أن يتصور غير المحدد تصورًا تاما، وكل ما يفعله أن يقيس وجوده على وجود نفسه وذلك ظن وليس بيقين".
وبيّن عياد أن الاعتبار الثاني يكون من حيث التعاون، فكلاهما في حاجة إلى الآخر، ولا يستغنى بواحد منهما عن الثاني، كما أنه غير خفي أن العقل يعد أساسًا للوحي في فهم الأوامر والنواهي الإلهية، فضلًا عن ذلك، فالعقل شرط التكليف وأن المطالع لسير الأنبياء وصفاتهم نجد أن الله تعالى قد اختارهم على أعلى درجات الكمال الَخلقي والُخلقي والعقلي قال تعالى: "اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ". وذلك لأداء مهمتهم وتبليغ رسالتهم وإلا كان ذلك حجة لخصومهم عليهم، فما من رسول أرسله الله إلا وكان من بين صفاته الفطانة التي هي مأخوذة من التفطن والتيقظ بمعنى حدة الذكاء وسرعة الإدراك بحيث يتمكن المتصف بها من إفحام المعاندين وإلزام المخالفين وإلا أقاموا الحجة عليه وبالتالي ضاعت الغاية من بعثته ورسالته، قال تعالى: "وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ ۚ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ ۗ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ".
وتابع: وفي هذا ما يساعد على دور العقل وأهميته بالنسبة الوحي الإلهي وعلي تأكيد التعاون بينهما، وإذا كان هذا خاص بما يقدمه العقل للشرع، فإن الشرع يتعاون أيضًا مع العقل ويكفيه أنه أراحه من عناء البحث فيما لا قبل له، فضلًا عن ذلك كشف له أن الوجود لا ينحصر في هذا الوجود المرئي وبذا يكون قد فتح أمامه مجالا ت عديدة للبحث وأفاق متنوعة للمعارف وبصره بحدوده وأدواته كي لا يضل ولا يشقى، فضلًا عن ذلك كله بصره بأدلة متنوعة وبراهين مختلفة تصلح أن تكون أساسًا يهتدي بها العقل في تفسيره للوجود ورده إلى مصدره الأول الذي صدر عنه، وفي ذلك كله ما يوضح عمق التعاون بينهما، فكلاهما في حاجة إلى الآخر، وكلاهما لا يستغني عن الآخر، وفي هذا دليل على وجود تعاون بينهما.
ولفت عياد إلى أن الاعتبار الثالث يكمن من حيث الحاكمية والمحكومية في التشريع واعتبار المصالح، فالعقل محكوم من الوحي، فما أتي به العقل من معارف في مجال الغيب، وما أدركه من مصالح في عالم المادة يخضع لحاكمية الوحي فإن وافقه فبها ونعمت وإلا فالقول قول الوحي لأنه أشمل وأكبر إحاطة.
كما أنه لا يفهم من هذا إهمال العقل أو إنكار دوره، فللعقل دوره الذي لا يمكن إنكاره ومنه، ربط بين الأسباب والمسببات، وبيان صلة العلل بالمعولات، والوقوف على ألوان متعددة من الحكم في التشريعات، وربط بين الأدلة والمدلولات إلى غير ذلك من أمور يمكن للعقل الوقوف عليها وإدراكها.
كما أوضح عياد على أن هناك معارف يصل إليها العقل وهناك معارف غيبية يتكفل الوحي بالإجابة عليها.
كما أكد عياد على أن العرف يعتد به ويعمل به وصار متفقًا عليه بين العلماء فما تعارف الناس عليه بأنه حلال فهو حلال، إلا إذا ورد الشرع بتحريمه، وما تعارف الناس عليه بأنه حرام فهو حرام، إلا إذا ورد الشرع بتحليله، وعلى هذا يكون أي عرف، يلزم عنه سلوكًا غريبًا وأفعالا شاذة، وتعارضت مع الوحي وتناقضت مع العقل، فلا يعتد به ولا يلتفت إليه ولا يعمل به.
وختم عياد كلمته بأن علم الفلك وإن كان علمًا تجريبيًا بالملاحظة والمشاهدة؛ إلا أن ميدانه معلوم وليس له أن يتصدى للكشف الغيب؛ باعتبار أن علم الغيب مكفول لله تعالى، وما يحدث في مثل هذه العلوم إنما يكون استنادًا إلى جملة من المقدمات العلمية التي انتهت إليها الكشوف العلمية، وختمت عليه القوانين الكونية، الأمر الذي يسهم في التنبؤ أحيانا فيما يتعلق بأمور المناخ والجو وغير ذلك من أمور مبناها التجربة، والانطلاق من مقدمات تؤدي إلى نتائج.