د. محمود جلال يكتب: تمويل الابتكار وريادة الأعمال في مؤشر الابتكار العالمي (6)
تحتاج الدول النامية إلى سياسات تعمل على تمكين الأسواق المالية من أن تصبح آليات تحفز الابتكار، ومنها إزالة الحواجز القانونية والتنظيمية التي تحول دون تطور سوق رأس المال الاستثماري، كما في البرازيل، على سبيل المثال، حيث نجد أن الضرائب غير ملائمة، والافتقار إلى الحوافز الضريبية لأصحاب رؤوس الأموال وتنظيم رأس المال الريادي (entrepreneurial capital) والأنظمة الأخرى ذات الصلة بالأعمال، وهي عقبات واضحة أمام إنشاء سوق رأس مال استثماري كبير بها. ولكن إحراز تقدم في هذه المجالات ليس "مهمة مستحيلة"، فنجد أن الهند حققت، على سبيل المثال، تقدمًا كبيرًا في رعاية نظامها البيئي للابتكار، واليوم، هناك المئات من المستثمرين الهنود جاهزين لدعم الشركات الناشئة المحلية.
الجزء السادس: الدعم الحكومي لرأس المال الاستثماري، والعقبات التمويلية التي تواجها الشركات التكنولوجية الناشئة:
لا توجد سياسة ابتكار واحدة يمكنها حل جميع مشكلات تمويل الابتكار في بلد ما، بل تحتاج لمزيج من السياسات يتعامل مع مختلف العقبات التي تعترض تمويل الابتكار ويحقق التكامل بين آليات التمويل ومصادرها المختلفة، وذلك لن يتحقق إلا من خلال الدعم الحكومي للتخلص من أهم المشكلات التي تواجه تمويل الابتكار وهي مخاطر التكنولوجيا والسوق.
فالشركات التي كانت في السابق شركات ناشئة ذات مخاطر تكنولوجية كبيرة أصبحت اليوم شركات كبيرة ناجحة بسبب قيام الحكومات بمساعدتها في التخلص من مخاطر التكنولوجيا وتقليل مخاطر السوق لتشجيع رأس المال الاستثماري للاستثمار في المراحل المبكرة للمشاريع والقطاعات القائمة على العلم، من أجل تعويض الانخفاض الحالي في الابتكارات الجذرية الناتجة من الشركات الكبرى.
كما قامت حكومات الكثير من الدول مثل أستراليا وإسرائيل والصين وماليزيا والأردن والمغرب والسنغال والبرازيل بإنشاء صناديق استثمار رأس المال الاستثماري، وقد حقق بعضها نجاحًا نسبيًا كما في أستراليا وإسرائيل والصين وسنغافورة، ولكن بوجه عام فإن صناديق رأس المال الاستثماري الحكومية أقل فاعلية من رأس المال الاستثماري الخاص.
ومثال على ذلك، جهود الحكومة السعودية التي قامت بإنفاق عشرات المليارات من الدولارات في سعيها لتعزيز نشاط رأس المال الاستثماري لديها، وقامت بمجموعة متنوعة من الإصلاحات التنظيمية، منها إنشاء سوق من الدرجة الثانية للاكتتاب العام للشركات الناشئة في عام 2017 مع قواعد إدراج أقل تقييدًا ومتطلبات إفصاح أكثر مرونة من السوق الرئيسية، وإنشاء صناديق استثمارية (venture funds) ومحاور إقليمية (regional hubs) بالاشتراك مع الجامعات، والقيام باستثمارات عالمية في رأس المال الاستثماري، والتزام صندوق الاستثمارات العامة السعودي بتمويل صندوق رؤية سوفت بنك (SoftBank Vision Fund)، وهو صندوق استثماري سعودي – ياباني، بمبلغ 45 مليار دولار أمريكي، ومع ذلك، ظل مستوى استثمارات رأس المال الاستثماري في السعودية متواضعا للغاية، حيث تلقت الشركات السعودية في عام 2018 تمويلًا من رأس المال الاستثماري في عام 2018 بقيمة 50 مليون دولار فقط (وعام 2019 بقيمة مقاربة) بما يمثل نسبة 0.006٪ من الناتج المحلي الإجمالي، والذي يعادل واحد على ستين من مثيله في إسرائيل.
وأيضا نجد أن الحكومة الصينية لتشجيع رأس المال الاستثماري لديها في إطار برنامج صناديق التوجيه الحكومية، تم استثمار أكثر من 231 مليار دولار أمريكي في عام 2015 وحدها في صناديق الاستثمار التي ترعاها الحكومة وتوجيه معظمها لدعم الهيئات الحكومية والشركات المملوكة للدولة، وهو ما يمثل أكثر من خمسة أضعاف المبلغ الإجمالي المخصص لصناديق الاستثمار في جميع أنحاء العالم من قبل جميع المستثمرين الآخرين. كما قامت الحكومة الصينية أيضًا بجمع 1.8 تريليون دولار أمريكي لهذه الصناديق بحلول نهاية عام 2018 الأمر الذي أدى لحدوث فقاعة كبيرة تبعها انهيار سريع وتباطؤ أدى لانخفاض جمع الأموال بنسبة 90٪ تقريبًا، بحيث تراجعت الشركات الصينية من ذروة 45٪ من رأس المال الاستثماري المستثمر في جميع أنحاء العالم إلى 15٪ في الربع الثاني من عام 2019.
حيث لا تملك هذه المؤسسات الحكومية مجموعة المهارات المرتبطة بتحديد وتمويل الأعمال التجارية الريادية بنجاح، نظرا للغموض والتعقيد والتخصص المرتبط بهذه الاستثمارات، مما يجعل هذه المهام صعبة للغاية ويكونون غير مناسبين بشكل واضح لاختيار وإدارة الشركات الريادية أو المبتكرة، وتظهر جوانب قصور كبيرة، مثل كيف لم يفكروا مليًا في فرص السوق الواقعية، وطبيعة رواد الأعمال والوسطاء الذين يتم تمويلهم، وكيف ستؤثر الإعانات التي قدموها على قدرة الشركات على قبول التمويل الخارجي، أو الاستجابة للتحولات في طلب العملاء، حيث يمكن وضع قواعد تثبت أنها ضارة جدًا لأولئك الذين يقصدون مساعدتهم.
ولحماية رأس المال الاستثماري العام تم الاعتماد على صناديق المناصفة (matching funds) بحيث يكون نصف التمويل أو أكثر من القطاع الخاص، اعتمادًا على أن صناديق الاستثمار أو الشركات الريادية التي ستستطيع جمع الأموال من مصادر خارجية يجب أن تكون لأنشطة مجدية تجاريًا، نظرًا للخبرات الكبيرة لأصحاب رؤوس الأموال من القطاع الخاص في اختيار أفضل الفرص الاستثمارية الأمر الذي سيعمل على تقليل المخاطر وتحسين نتائج هذه البرامج.
مثل تجربة الحكومة في إسرائيل عندما فشلت جهودها السابقة في تعزيز ريادة الأعمال في مجال التكنولوجيا المتقدمة، نظرًا لأن 60% من رواد الأعمال في برامج الدعم السابقة قد نجحوا في تحقيق أهدافهم الفنية ولكنهم فشلوا رغم ذلك لأنهم لم يتمكنوا من تسويق منتجاتهم أو جمع رأس المال إضافي لمزيد من التطوير، لذلك قامت الحكومة بإنشاء صندوق يوزما الإسرائيلي لرأس المال الاستثماري، وعمل صندوق يوزما بنشاط على إثناء الممولين الإسرائيليين عن المشاركة في برامجها، وبدلًا من ذلك، كان التركيز على جلب الخبرة الاستثمارية لأصحاب رؤوس الأموال الأجانب (foreign venture capitalists) وحثهم على تخصيص رأس المال لرواد الأعمال الإسرائيليين وجلب شبكات اتصالاتهم الدولية إلى إسرائيل، وبعد ما يقرب من سبع سنوات من إنشائها تجاوزت الاستثمارات الخاصة قيمة الاستثمارات الحكومية، واحتلال اسرائيل للمرتبة الثانية عالميًا من حيث توافر رأس المال الاستثماري بها والمرتبة الثانية بعد وادي السيليكون بكاليفورنيا في مستوى الابتكار.
ولكن ليست كل تجارب صناديق المناصفة ناجحة، فعلى سبيل المثال، في مبادرة صناديق التوجيه الحكومية في الصين، بالعديد من المدن الصينية لم تستطع جذب قدر كافٍ من رأس المال الخاص، وكانت النتيجة مطابقة الأموال الحكومية بأموال حكومات المقاطعات والولايات التي تتوق إلى تعزيز الاقتصاد المحلي، أو من الشركات المملوكة للدولة. وبالتالي، انتفى الغرض من هذه الصناديق والتي كان من المفترض أن تضمن عدم توزيع الأموال العامة عشوائيًا والتحقق من صحة الأفكار في السوق.
هذا وتعاني العديد من الشركات التكنولوجية الناشئة التي لا تتطابق مع نموذج رأس المال الاستثماري لتمويل الابتكار، وبالتالي يصعب عليها تلقي التمويل المناسب، نظرًا لخصائصها التالية:
1) الفترة الزمنية الطويلة المطلوبة لبناء مثل هذه الشركات،
عادة ما يجمع مستثمرو رأس المال الاستثماري أموالًا من شركاء محددين ولفترة محددة (closed-end funds)، عادةً 10 سنوات (وممكن أن تزيد لبضع سنوات أخرى)، لذلك فهم مطالبون باستثمار الأموال التي جمعوها وإعادة العائدات خلال هذه الفترة، لذلك ينجذبون إلى الاستثمارات التي تمكنهم من تحقيق عائد في غضون فترة زمنية قصيرة من خلال التخارج (إما بالاستحواذ acquisition من آخرين أو الطرح للاكتتاب العام IPO).
وهذا الحد الثابت لمدة التمويل يكون مقيدًا للاستثمار في الشركات الناشئة التي تحتاج إلى عنصر مادي يأخذ وقتًا طويلًا للبناء لتوليد التدفقات النقدية، لا سيما إذا احتاجت إلى بناء مصانع لإنتاج منتجات جديدة، كما هو الحال مع أجهزة الكمبيوتر، وإنتاج وتخزين الطاقة، والمواد المتقدمة والروبوتات، لإنه ا ستستغرق وقتًا طويًلا حتى تنضج ويقل احتمال أن تكون جاهزة للتخارج عند انتهاء فترة الاستثمار المحددة.
2) كثافة رأس المال المطلوب للتخلص من مخاطر هذه الاستثمارات،
يقوم مستثمرو رأس المال الاستثماري باستثمار مبالغ كبيرة من المال لتمويل توسيع نطاق الاستثمارات الناجحة، فقاموا بتقديم مليارات الدولارات للعديد من الشبكات الاجتماعية (التي تقدم خدماتها لأفراد/مستهلكين B2C - Business to Consumer) وشركات برمجيات المؤسسات (التي تقدم خدماتها لشركات B2B - Business to Business)، فعلى سبيل المثال، بلغ حجم التمويل الذي تم تقديمه لشركة أوبر أكثر من 7 مليارات دولار.
ولكن هذا التمويل مرهون بمقدار رأس المال اللازم لتحقيق المعالم الأولية من أجل التخلص من مخاطر الاستثمار والتعرف على إمكاناته النهائية، نظرا لصعوبة السيطرة على هذه المخاطر وتحديد العائد على الاستثمار، والواقع العملي يؤكد هذه الحقيقة، حيث نجد أن أكثر من نصف الاستثمارات حتى التي كانت تعتبر أنجحها قد فشلت بالكامل، وفي المقابل نجد أن غالبية عوائد شركات رأس المال الاستثماري جاءت من واحد أو اثنين من الاستثمارات التي نجحت للغاية وكان يصعب توقع هذا النجاح.
لذلك يتم استثمار رأس المال الاستثماري على مراحل، حيث يمكن اعتبار كل مرحلة أو جولة من التمويل بمثابة تجربة تنتج معلومات حول ما إذا كان بإمكان الشركة الناشئة تحقيق إمكاناتها الموعودة أم لا.
ويرتبط التمويل المرحلي بتحقيق المعالم، فيمكن للمستثمرين اختيار زيادة الاستثمار في الجولة التالية من التمويل عندما تحقق الشركات الناشئة معالم رئيسية، أو اختيار التخلي عن التمويل التكميلي إذا لم يظهر ما يعتبر واعدا بصورة كافية، ومن أهم هذه المعالم القدرة على جذب العملاء، أي تحقيق "ملاءمة المنتج مع السوق" “product-market fit”، والتي تستطيع بعدها التركيز على توسيع نطاق الأعمال لتحقيق إمكاناتها.
وينجذب رأس المال الاستثماري إلى تمويل الشركات الناشئة نظرا لانخفاض تكلفة التمويل في المراحل المبكرة، فيكون خيار إعادة الاستثمار أو التخلي في الجولة التالية بأقل تكلفة، خاصة عندما تولد تجربة التمويل هذه معلومات حول الإمكانات النهائية لهذا الاستثمار، وهل قد تفشل هذه الشركات في نهاية المطاف، أو أنها تستطيع أن تحقق العائد المرجو في وقت مبكر من حياتها، مما يمكّن هذه الشركات الناشئة من زيادة جولتها التالية من التمويل بتقييم أعلى بكثير، وبالتالي تجعل المستثمرين الذين قاموا بتمويل الجولات الأولية في هذه الاستثمارات يمتلكون حصة أكبر في رأس المال بتكلفة تمويل منخفضة تولد لهم عائدًا كبيرًا من أي قيمة تخارج.
وفي المقابل نجد أن الشركات الناشئة في القطاعات التي يصعب فيها تحقيق توافق المنتج مع السوق، لأن التجارب الأولية أكثر تكلفة أو أقل إفادة، تكون أقل جاذبية بكثير لمستثمري رأس المال الاستثماري.
3) طبيعة مخاطر التكنولوجيا والسوق التي تواجهها الاستثمارات الجديدة،
ترتبط مخاطر التكنولوجيا والسوق ببعضها بشكل معقد، فعلى سبيل المثال، يكون من الصعب للغاية التنبؤ بتكلفة الإنتاج التجاري واسع النطاق لوحدات تخزين الطاقة باستخدام مادة بطارية جديدة ثبت أنها تعمل بكفاءة في الظروف المعملية، وفي المقابل فإن تولد الطلب بالسوق لهذا المنتج الجديد مرتبط بقدرة الشركات على الإنتاج عند سعر معين.
وفي مثل هذه الحالات، يكون الحاجة إلى تمويل نموذج أولي واسع النطاق (full-scale prototype) للمنتج الجديد، يمكن أن يكلف عشرات أو مئات الملايين من الدولارات قبل معرفة ما إذا كانت هذه التكنولوجيا جيدة بما يكفي لزعزعة السوق (disrupt a market)، لذلك فالمدة الزمنية والتكاليف المرتبطة بعملية التعلم والتخلص من مخاطر التكنولوجيا هذه تعتبر كبيرة للغاية بالنسبة لمستثمري رأس المال الاستثماري.
وتأتي أيضا مخاطر السوق، مثل خطر عدم وجود اهتمام كاف من العملاء بالمنتج الجديد لتوليد عائدات كبيرة، خاصة في القطاعات التي تخضع للتنظيم أو التي تشارك فيها الحكومة بشكل كبير بسبب أهميتها للاقتصاد، أو حتى عندما يكون العميل يتمتع بقوة سوقية كبيرة مما يجعل من الصعب الحصول على هوامش ربح عالية عند البيع له.
وبسبب هذه التحديات، عادةً ما يدعم مستثمرو رأس المال الاستثماري تكنولوجيات مفهومة جيدًا في القطاعات ذات المخاطر التنظيمية الأقل، ويركزون جهودهم ومهاراتهم حول مساعدة شركات محفظتهم الاستثمارية على تحقيق توافق المنتج مع السوق.
بينما الحالات التي تم فيها الاستثمار في الشركات الناشئة ذات المخاطر التكنولوجية الكبيرة من قبل رأس المال الاستثماري، كان بمشاركة حكومية كبيرة ساعدت في تقليل مخاطر التكنولوجيا و/أو تقليل مخاطر السوق.
فعلى سبيل المثال، عندما قام رأس المال الاستثماري بتمويل الثورة التكنولوجية لأشباه الموصلات في الولايات المتحدة، كانت الحكومة الأمريكية العميل الرئيسي لشراء المخرجات مما قضى فعليًا على مخاطر السوق.
فليست كل الاستثمارات القائمة على العلم مناسبة لرأس المال الاستثماري، فنجد أن بعض الاستثمارات الناشئة من الجامعات قد استطاعت بالفعل تلقي تمويل كبير من رأس المال الاستثماري وأيضا تحقيق عوائد عالية للمستثمرين، وحل مشاكل مهمة للعالم. وفي المقابل هناك العديد من الابتكارات المطلوبة لحل مشاكل المجتمع الأكثر إلحاحًا لا تتناسب مع الإطار الزمني والقيود التمويلية الخاصة بمستثمري رأس المال الاستثماري.
وفي ظل تراجع فرص انتاج الابتكارات الجذرية من الشركات الكبرى، فيجب على الحكومات التدخل لدعم استثمارات التكنولوجيات الجديدة شديدة التعقيد (tough tech) والتي تحتاج إلى فترة طويلة من الاحتضان والتخلص من المخاطر، نظرًا للطبيعة العشوائية للاختراقات التكنولوجية، والتي قد تتطلب تحمل أعباء الفشل في بعضها لحث المبتكرين على تجربة مسارات غير مثبتة، مما يصعب التحكم فيها بنفس طريقة التجارب المتعلقة بطلب العملاء.
ويمكن تقديم هذا الدعم من خلال قيام المؤسسات الأكاديمية بالمساعدة في التخلص من المخاطر التكنولوجية قبل قيام الشركات الناشئة بجمع رأس مال الاستثماري من المستثمرين، خاصة وأن أغلب هذه الاستثمارات تستند إلى علوم أو تكنولوجيات جديدة تم تطويرها في الجامعات، وايضا يمكن تدريب مؤسسي استثمارات التكنولوجيات الجديدة شديدة التعقيد هذه على الأعمال التجارية، لفهم شرائح العملاء المناسبة ونماذج الأعمال ومصادر ونماذج التمويل المناسبة نظرا لتعددها واختلاف الحوافز والمزايا التي تقدمها وايضا القيود والقدرة على التجربة وتحمل الفشل بها.
وللحديث بقية..