د. رشا سمير تكتب: الشاعر إبراهيم ناجي..والحفيدة التي دعاها لزيارته
أن تزور شخص ما..معناه أنك تطرق بابه لتأتنس به، أحيانا من باب الود وأحيانا من باب طلب الحاجة ودائما من باب الحنين..أما أن تكون الزيارة حميمية، فهي من المؤكد زيارة تتعلق بشخص قريب إلى القلب، أو مكان يسكن الوجدان..أو الأثنين معا.
أنت تذهب لزيارة شخص ما..لكن، ماذا إذا جاءك هذا الزائر ليطلبك لزيارته؟.
أحيانا يحتاج الشخص أثناء حياته إلى من يزوره من باب الوحشة أو الوحدة أو حتى الونس، ولكن أن يطلب الشخص الزيارة بعد رحيله، فهذا هو المختلف..
نحن اليوم بصدد عمل، لن أطلق عليه سيرة ذاتية، ولا سيرة حياتية..لكنه بالفعل زيارة حميمية كما أطلقت عليه صاحبته..
نحن أمام كتاب مختلف، من أول العنوان مرورا بالغلاف وحتى المحتوى..
إنه كتاب (إبرهيم ناجي..زيارة حميمية تأخرت كثيرا) للكاتبة الأستاذة الجامعية د.سامية محرز، أستاذة الأدب العربي ومديرة مركز دراسات الترجمة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة..وعلى رأس كل ذلك هي حفيدة الشاعر الكبير إبرهيم ناجي..
الحقيقة أن مشوار محرز في طريق الأدب العربي يختلف تماما عن مشوار جدها الذي نسج من الشعر نسيجا من الدانتيلا الناعمة في أبيات لن تموت أبدا، حتى بعد رحيله، المختلف أنها تعلمت في مدارس أجنبية منذ الطفولة، وتخصصت في الأدب الإنجليزي، ولكن سرعان ما قررت أن تأخذ وجهة جديدة أثناء الرحلة وتنعطف لتدرس الأدب العربي وفنون الترجمة، ومن ثم أسست مركز الترجمة بالجامعة الأميركية عام 2009، وصدر لها عدة دراسات ومقالات في مجال الترجمة الأدبية والنقد الثقافي، وهكذا أصبح هذا الكتاب هو أول عمل تكتبه باللغة العربية..
زيارة تأخرت:
لم تعرف سامية جدها الشاعر إبراهيم ناجي الذي عرفه الكثيرون، فقد توفى قبل ولادتها بعامين، لكن مثلها مثل أي حفيد يولد في عائلة يعرف أن له جد كان له شأن كبير، يفتخر به، ويتباهى بكونه إمتداد لهذا الجد، إلا أنه لم يجلس على حجره ولم يستمع له وهو يروي الحكايات، ربما كان ولازال بالنسبة لها مجرد صورة في ألبوم الذكريات أو وجه مألوف في برواز على الحائط..إلا أن هذا الجد ودون سابق إنذار جاء إليها طالبا الزيارة..بل وطالبا زيارة حميمة؟
كيف؟....
هذا ما ترويه د.سامية محرز في كتاب من 274 صفحة صادر عن دار الشروق المصرية للنشر والتوزيع، وهي الدار التي عودتنا أن تنتقي العناوين المعنية بنشر ثقافة لها قيمة، وأعمال ترسخ تاريخ مصر بين صفحات الكتب.
في بداية الكتاب تروي د.سامية عن عدم إكتراثها كمراهقة بأشعار جدها التي كانت تراها سر تعاسة مطلقة لزميلاتها في المدرسة، واستشهدت على ذلك بقصيدة (العودة) التي جعلتها مدعاة للسخرية بين زملائها حديثي السن والعلم، نظرا لصعوبة النص المقرر.
كما تروي أيضا كيف إنبهر الأديب جمال الغيطاني حين دخل بيت العائلة لمناقشة موضوع أطروحة الدكتوراة عن مجمل أعماله، ليلحظ صورة إبراهيم ناجي على الجدار في طريق خروجه من المنزل، ليسألها ضاحكا:
" هو الدكتور ناجي بيعمل عندكوا إيه؟"
وتكتشف الحفيدة أن وجه الشبه بينها وبين جدها كان أولى ملاحظات الأديب الكبير.
تبدأ القصة من واحد شارع حسونة النواوي المتفرع من أبو بكر الصديق بمصر الجديدة..وهو عنوان منزل الجدة والجد.
ثم تنتقل إلى حيث وجدت المظروفين المغلقين، أجندة باللغة العربية بها مذكرات إبراهيم ناجي وفي المظروف الثاني مجموعة من الأوراق القديمة والكراسات جزء منها بالعربية وجزء بالإنجليزية..ومن هنا تبدأ أحداث الزيارة، ففكرة الكتاب بُنيت على آخر ما تبقى لورثة إبراهيم ناجي من أوراقه، والتي استقرت بين يدي حفيدته على شكل مظروفين فيهما مفكرة تضم تدوينات بخط يده في الفترة بين 1944 وحتى 1949، إضافة إلى مجموعة من الخطابات والترجمات التي لم تنشر من قبل.
تقول محرز عن جدها الطبيب الرومانسي الحالم:
" هذه الزيارة خلقت بيننا صداقة، وقد سمحت لي مفكرته بالتعرف عليه وتقبّله، فحياة ناجي مبهرة بالنسبة لي، لأنه كان مليئًا بالطاقة، ورغم حياته القصيرة والأمراض التي أصابته والمحن التي مر بها، إلا أنه استطاع أن يكون مثقفًا موسوعيًا في كل النواحي، بما في ذلك هوسه بالعلم والكتابة والمعرفة ونشرها على جمهور عريض".
وتقول أيضا عن إختيارها لعنوان الكتاب:
"اخترت أن أسميه (زيارة) لأني أتعرف على شخص لا أعرفه، من خلال خط يده وأوراقه، فالكتابة عن ناجي ليست مشروع العمر بالنسبة لي. أنا أكتب فقط عن الوثائق التي عثرت عليها، وحاولت ربطها بالتواريخ والأحداث في حياته، وما وصلني من حكايات".
هنا لا يفوتني أن أحيي مصمم الغلاف الإبن المهندس نديم جاكمون إبن الدكتورة سامية الذي على ما يبدو تعلق بالكتاب بشكل أكبر من أمه فقرر تصميم الغلاف لها والذي أراه تصميا ناجحا وجذابا.
ناجي الطبيب الرومانسي:
بدأ ناجي حياته التعليمية في مدرسة باب الشعرية الابتدائية عام 1907 والتوفيقية الثانوية عام 1911 ومدرسة الطب بقصر العيني عام 1922 وتم تعيينه طبيبا حكوميا في وزارة المواصلات في السكك الحديدية عام 1922 ثم في وزارة الصحة وبعدها في وزارة الاوقاف حتى شغل منصب مراقب عام القسم الطبي في الوزارة وخرج إلى المعاش مبكرا لضعف صحته ثم تفرغ لعيادته الخاصة كما شغل منصب طبيب نقابة السينمائيين والممثلين وكان وكيلا لمدرسة «أبوللو» الشعرية عام 1932 ورئيسا لرابطة الادباء في مصر عام 1945..
كانت بداية إبراهيم ناجي الشعرية عام 1926م، من خلال ترجمة بعض أشعار ألفريد دي موسييه وتوماس مور شعرًا ونشرها في جريدة "السياسة" الأسبوعية، وانضم بعد ذلك إلى جماعة أبوللو الشعرية عام 1932م وأصبح وكيلا لها..
قصص طريفة:
غنّت الفنانة أم كلثوم رائعتها "الأطلال" من شعر إبراهيم ناجي بعد أكثر من 13 عامًا على وفاته، فانهمرت التصريحات وقتها من الكثيرات من نجمات الفن والأدب للصحافة بأن القصيدة كُتبت لهن، وهو ما شكّل عاصفة واجهتها الأسرة آنذاك، واضطرت معها بنات ناجي الثلاث إلى نشر بعض خطابات أبيهن إلى أمهن، وفقًا لما كتبته محرز في الكتاب.
تروي أيضا محرز علاقة الغرام بين ناجي وشكسبير في فصل أسمته (صديقي شكسبير)، فناجي يقول أن الطلبة كانوا يكرهون كتب شكسبير المقررة عليهم أما هو فكان يعشقها ويحفظها ويجيد تمثيلها، فكانت قصته في امتحان البكالوريا وحفظه لمسرحية هاملت كاملة من النوادر التي تناقلها الكثيرون ممن كتبوا عنه.
أما رسائل (هومة) و(سومة) أو رسائل جدها وجدتها إبراهيم ناجي وسامية سامي التي نشرتها أيضا، وكتبت عنها بشكل حالم ورقيق رغم الغلطات اللغوية التي آثرت هي والناشر على الإبقاء عليها وفاءا وحرصا منهما على روح النص كما وجدوه.
تتوالى الحكايات بين كونه عاشقا ولهانا وإمرأة مجهولة في حياته كانت ملهمته ليسطر الشعر، وكونه طبيب العائلة الذي يداوي الجراح ويعالج ويسطر ذلك في أجندة صغيرة.
الملهمة المجهولة:
اهتمت محرز بشجاعة ودقة بالمُلهمة الأولى لجدها وتفصح عن إسمها لأول مرة، وهي التي ترى أن "الأطلال" ربما تكون قد كتبت لها، تقول عنها:
"لم يكن همي الدفاع عن ناجي أو الحفاظ على صورة العائلة، فأهمية ملهمة ناجي الأولى (علية الطوير) لا تقف فقط عند قصيدة الأطلال، بل لأنها علاقة المراهقة التي ربما أدت إلى توجهه الرومانسي. ثانيًا لقد حفزته علاقته بها أن يُعلّم نفسه اللغة الفرنسية وأن يترجم عنها لاحقًا. وأنا أتتبع هذه الشخصية لأنها غالبًا كانت مؤثرة على تكوين ناجي الفكري كله، بغض النظر عن كونه كتب الأطلال لها أم لا".
مواقف صعبة:
أصعب المواقف التي يرويها الكتاب تلك التي عاشها ناجي وقتما إكتشف أنه مصاب بمرض السكر وهو في بداية شبابه وعمره 26 عاما وعاش بعدها حاملا حقيبة بالادوية التي تسعفه عندما يتعرض للازمات ولم ييأس لحظة واحدة من رحمة الله، والموقف الأصعب يوم صدمته سيارة كانت مسرعة وأحدثت به إصابات شديدة في ساقه والحوض وأخبره الاطباء بأنه سيظل عاجزا مدى الحياة، لكنه دخل مستشفى في لندن لمدة ثلاثة أشهر تلقى خلالها جلسات علاج على الساق وأجريت له عملية جراحية احتمل الآلام وصبر بعدها سنوات حتى تحسنت حالته وعاد إلى طبيعته مرة أخرى وفي أثناء وجوده في المستشفى كان يرسل رسائل إلى صديقه محمود الشرقاوي يصف له فيها ما يعانيه من أزمة نفسية حادة وحينما عاد إلى مصر مكسور الساق قال جملته الشهيرة: «خرجت من الديار أجر همي وعدت إلى الديار أجر ساقي».
الحقيقة أن الكتاب أدب من نوع مختلف، أدب إنساني، الإختلاف الجوهري فيه أن تلك الزيارة التي قامت بها سامية محرز بين أروقة حياة الشاعر الكبير إبراهيم ناجي هي مجرد صدفة رتبها القدر ولم تخطط لها الحفيدة، فكانت بمثابة رحلة إكتشاف لقريب لم يكن يوما قريبا، لكنه بات كتابا مفتوحا بعد تلك الزيارة.
[email protected]