د. رشا سمير تكتب: اللى يجى فى الـ«ريش».. تهميش!
تعلمنا فى كلية الطب أن تشخيص الداء هو أولى خطوات نجاح العلاج.
وعلمتنا الحياة أن الإبهام لا يشير إلا للأشياء التى تحتاج إلى تعريف، بل هو تأكيد على جذب الانتباه إلى شىء ما بالإشارة إليه وليس بتجاهله.
وطالما سمعت جدتى تقول عقب كل حادث صغير يقع.. اللى يجى فى الريش بقشيش!
تذكرت كل تلك الأقوال والعبارات وأنا أرقب بكثب ما يجرى على الساحة الاجتماعية بعد عرض فيلم (ريش) فى مهرجان الجونة السينمائى، ذلك المهرجان الذى تعودنا منذ خمس سنوات أنه يُحدث حالة من الانقسام غير المفهومة فى صفوف المشاهدين وغير المشاهدين!.
فهناك من يرى أن المهرجان يقدم فنًا مختلفًا، وهناك من يرى أنه عرض أزياء خاص لمجموعة تعيش فى عالم مواز.. وهناك من يرى أن مستوى الأفلام ضعيف والإبهار الوحيد يأتى من فساتين الفنانات العارية..لكن والأكيد أن صناع المهرجان لم يجبروا أحدًا على متابعته، فحرية المشاهدة مكفولة للجميع.
عودة إلى فيلم ريش.. وهو فيلم من إخراج عمر الزهيرى الذى قام بكتابته أيضا بالاشتراك مع الكاتب أحمد عامر، والفيلم من إنتاج مجموعة من المنتجين منهم محمد حفظى وشاهيناز العقاد فى إنتاج فرنسى مشترك.
لن أناقش قصة الفيلم الذى فاز بالجائزة الكبرى لمسابقة أسبوع النقاد الدولى فى مهرجان كان السينمائى، كما فاز بجائزة الفيلم الروائى فى مهرجان الجونة.. لكننى بصدد مناقشة حالة الجدل والانقسام التى أثارها فيلم واقعى بسيط وضع يده على مشكلة حقيقية قائمة فى مصر حتى لو كانت هناك محاولات جادة للقضاء عليها وهى مشكلة العشوائيات، ولأن تعداد سكان مصر مائة مليون نسمة، فالمشوار إذن مازال طويلا.
حالة الجدل التى وصلت إلى حد انصراف بعض الفنانين المصريين من منتصف العرض اعتراضا على الفيلم حاملين لواء عنوانه مضحك هو (الإساءة لسمعة مصر)!.
أتمنى أن أوضح لهؤلاء وغيرهم ممن قرروا أن يظهروا فى كادر المزايدة الوطنية، على أن مصر سمعتها أكبر بكثير من أن يسىء لها فيلم سينمائى ولا حتى فستان فاضح!..والمزايدة فى الأصل ليست سمة فنية لفنانين هم واجهة الدولة، يعرفون قيمة ومعنى تجسيد مشكلة واقعية على الشاشة الفضية.
هل كان (أفواه وأرانب) يوما فيلما يسىء إلى سمعة مصر؟ هل كانت (ثرثرة فوق النيل) رواية تسىء إلى سمعة مصر؟ وماذا عن (حين ميسرة) و(هى فوضى) و(الجوع) و(الكرنك)؟!
أم كانت تلك الأفلام صرخة مدوية أظهرت شرخا فى بنيان المجتمع المصرى فأدت إلى حل؟
المأساة الحقيقية يا سادة ليست فى الفيلم ولكنها فى الفيلم الذى حدث حول الفيلم!..
الإحساس بالغربة الفظيعة والتكبر الشديد من قبل مذيعة تعاملت مع أبطال الفيلم (ولأنهم حقيقيون) وكأنهم يعيشون فى عالم خارج العالم، وطالبتهم بأن يسجدوا للمخرج شكرا لكونهم اليوم يقفون جنبا إلى جنب مع رواد الريد كاربت الساويريسية الجنسية!.
ثم نظرات وهمسات الحاضرين إليهم، الذين لم يتقبلوا فكرة كونهم نجومًا من عالم آخر يقفون معهم على أرض الجونة التى كان ضيف شرفها هذا العام (نمبر وان) الفنان الذى مازال يعيش متوهما أنه نجم!.
المشكلة ليست فى نجاح ممثلين مغمورين ولا فى وجودهم فى الجونة.. المشكلة ببساطة هى السماح بنجاح أحد من خارج دائرة النجاح المعروفة.
أى وببساطة، وجه غير مألوف ضمن الوجوه التى لا يصح للنجاح إلا أن ينحصر فيهم، وكأن النجاح أصبح ملكية حصرية!.
لقد تعودنا فى مصر أن يقتصر النجاح على وجوه معينة، على مجموعة من البشر تربطها مصالح واحدة.. ومن هنا جاءت محاولات التهميش والاندهاش والتحقير لأبطال الفيلم، وتصنيفه كفيلم يسىء لسمعة مصر.
هذا الفيلم أثبت بالدليل القاطع أن مصر تنقسم إلى عدة دويلات.. بعضها يسكنها الفقراء فى العشوائيات وبعضها يسكنها القادرون على غزو الكومباوندات.. وبعضها من يقضى الصيف فى الساحل والشتاء فى باريس.