بطرس دانيال يكتب: التسامح من شيم الكرام
يعلّمنا السيد المسيح بقوله: «سَمِعتُم أنَّه قيل: «أحْببْ قريبك وأبغِضْ عَدُوَّك». أمَّا أنا فأقولُ لكم: أَحِبُّوا أعداءَكم وصَلُّوا من أجل مُضطهدِيكم» (متى ٥: ٤٣-٤٤). ذات يوم دعا رجل أولاده الثلاثة، وقال لهم: «لقد وصلتُ يا أبنائى إلى نهاية حياتى، لذلك أردتُ أن أوزّع ثروتى بينكم»، وقام بتقسيم ثروته بالعدلِ بينهم كل واحدٍ حسب نصيبه. ثم قال: «قد بقيتْ عندى جوهرة ثمينة هى أغلى ما أملك، وسوف أمنحها لمن قام بأفضل عمل، إذاً فليخبرنى كلٌّ منكم بأفضل أعماله، لأقرر من يستحقها». فقال الأول: «قد ذهبتُ إلى بلادٍ بعيدة، لا أعرف من سكانها غير رجل غنى رحّب بى وأكرمنى، ثم أودعنى ماله وجميع مقتنياته دون كتابة إيصال أمانة، وعندما أراد أن يستردها، سلّمت له المال والمقتنيات كما أعطانى إياها». فقال الأب لابنه: «قد عملتَ ما هو مطلوب منك، ولا شىء خارق، ولو أنك فعلت غير ذلك، لأصبحت مخطئاً وغير أمين!» وقال الثانى: «أما أنا فقد عملت عملاً أفضل، بينما كنتُ سائراً بجوار شاطئ البحر، وكانت أمواجه هائجة، فإذا بغلامٍ يتخبط شمالاً ويميناً صارخاً طالباً النجدة، ولكن لا حياة لمن تنادى، كأن قلوب المارة قد تجمّدت من شدّة البرودة والبلادة، وللحال ألقيتُ بنفسى فى الماء وأنقذته». فأجاب الوالد: «إن عملك بطولى، ولكنه عمل يجب أن يقوم به كل امرئ ينبض فى عروقه حب الإنسانية!». وأخيراً تقدّم الثالث وقال: «حدث أثناء تجولى يوماً أن التقيتُ براعٍ كان عدوى اللدود منذ طفولتى، وكان نائماً بالقرب من هوةٍ عميقة، ولو أنه قام بحركةٍ خفيفة لقضى على حياته، وقد تغلّبتُ على ميولى لروح الانتقام منه، فجذبته بلطفٍ عن حافة الهوّة، وهكذا نجّيته من موتٍ أكيد». فصاح الأب فرحاً وقال له: «أنت الوحيد الذى يستحق الجوهرة، فقد قمتَ بما عجز عنه البشر، لأنك أنقذت حياة عدوك!». كم من البشر يطلبون غفران الله لهم كل يوم، أو عدّة مرات فى النهار الواحد، فى حين أنهم لا يغفرون للذين يسيئون إليهم؟ أمثال هؤلاء الذين يطلبون عفو الله، إنما يخدعون أنفسهم حين ينتظرون غفران الله، دون أن يتنازلوا ويغفرون لغيرهم. لذلك أمرنا السيد المسيح بمسامحة الآخرين، ليس مرةً أو اثنتين، بل سبعين مرة سبع مرات، أى إلى ما لا نهاية له. فالحقد مرفوض بتاتاً مهما تكررت إساءة القريب. مَنْ منّا لا يحتاج إلى غفران الله بسبب ضعفنا البشرى؟ لذلك فالصفح هو فضيلة النفوس النبيلة، والقلوب الواعية الرحيمة، فى حين أن الانتقام هو شعور مَرَضى، يعترى النفوس الصغيرة والحقودة. كما يجب ألا نتخذ تصرّف الغير، قاعدة لسلوكنا معهم، ونقابل الحسنة بمثلها، ونكيل الصاع صاعين للإساءة؛ بل يجب أن نحب ونغفر للجميع، وهذا المبدأ تتخذه كل نفس شهمة، وقلب نبيل، يستحق مَنْ يعمل بموجبه، احترام الناس ومحبتهم، فضلاً عن رضا الله. ومما لاشك فيه أن إهانة الغير، أو المشاجرة معهم أو الانتقام منهم، لا توجد فيه شيء من البطولة، ويفعله عديم الأدب والتربية. بينما التهذيب وسيطرة الإنسان على أعصابه، ومعاملة الناس باللطف والاحترام والتسامح، فهذا يقتضى البطولة، ويمارسه الأشخاص ذوو التربية الصالحة والأخلاق الحميدة. إن الوصية التى تدعونا إلى محبة الأعداء والصفح لمبغضينا، تضمن لنا ينابيع صحة وسعادة، فضلاً عن ثواب الله. وليس المقصود من وصية المحبة وضع دستور أخلاقى فى سبيل التعايش السلمى فحسب؛ بل دستور صحيا أيضا، يلتزم باتباعه كل من يريد أن يعيش سليم الأعصاب، سويّ النفس والجسد، متجنباً أمراضاً كثيرة ومتعددة. فالحقد وطلب الثأر، عاطفتان لا تليقان بالبشر، والنفوس الضعيفة هى التى ترفض الصفح، كما أن القلوب العفنة وحدها تحقد وتثأر. إذاً فالصفح ليس ضعفاً، والانتقام نبلاً، فالتسامح من شيم الكرام. لنتمثل بالزهور كما يقول GHIKA: «إنها تعطّر حتى الأيدى التى تسحقها». ومما لا شك فيه أن الله لا يقبل منّا الانتقام من الغير، مهما فعل معنا من سوء، فكلنا ضعفاء، وكلنا معرضون للزلل وفى حاجة للصفح والمسامحة. والذين يجعلون الله نُصب أعينهم، فلا شيء يصعب عليهم، حتى محبة الذين أساءوا إليهم أو تسبّبوا لهم بالشقاء والخسارة والألم، وعندما يجد الله أقل استعدادا فى النفس، فهو يوليها النعمة والبركة لكى تتغلّب على ميول الطبيعة وثورتها وأحقادها. ونختم بهذه الكلمات الهادفة والبنّاءة: «الأحقاد تقتل وتفنى، والمحبة وحدها تصفح وتبنى، وتفجَّر الخير والسلام والسعادة بين البشر».