د. رشا سمير تكتب: مدرسة الروابى تطرق باب المسكوت عنه فى المجتمعات العربية
ماذا لو وقفنا أمام المرآة ودققنا النظر فلمحنا عيوبنا؟..
ماذا لو أخرجنا رأسنا من بين الرمال وخلعنا رداء النعامة؟..
ماذا لو أتتنا الشجاعة لنقول.. نعم فعلنا؟، ونعم لدينا؟ ونعم نُعانى؟..
ماذا لو قررنا البوح والاعتراف ولم نخش لومة لائم؟
ماذا لو؟...
من البراءة إلى الجراءة:
منذ بدأت الدراما المصرية تحتل مكانا لها على الشاشة الفضية، وتحولت القصص إلى أفلام ومسلسلات ومسرحيات، اتجهت أنظار العالم إلى مصر، مصر الثقافة التى شكلت وجدان الشرق الأوسط، ومن خلال دراما كبار الفنانين والكُتاب تعلم العرب اللكنة المصرية وارتبط اسم مصر بتاريخ من الأفلام العظيمة..
كانت البداية سينما فاتن حمامة وسعاد حسنى ورشدى أباظة وما عرف باسم سينما الرومانسية.. ثم ظهرت سينما الواقعية.. ومن هنا بدأ الرأى العام والنقد يتدخل فى محتوى ما سُمى بالدراما الواقعية وهو ما ينقل الواقع بجماله وقبحه وحساسية مواضيعه..
ظهرت أعمال لم نعد نرى فيها الزهور والبيوت الفارهة وصفحة مياه النيل، بل ظهرت العشوائيات والكباريهات والمخدرات والدعارة..
وانتقلت الدراما من صورة بريئة تجعل الكوب يسقط على الأرض مكسورا وصوت الرعد يهز الجدران فى تعبير عن فتاة أخطأت..إلى مشاهد صريحة فى الفراش ومشاهد أخرى رفضها المجتمع بل حاول وأدها..
ظهرت الرقابة والرقيب..فكان مقص الرقيب هو المقصلة التى تُطير رقبة أى عمل فنى له قيمة تحيد عن قيم المجتمع.
وهل الرقيب شخص مثقف ومتفهم ويدرك ما يقوم به من عمل؟ أم أنه مجرد أداة تنفيذ وتحت يده كتالوج لما يجوز وما لايجوز؟.. واحنا وبختنا بقى!.
فى البداية كان الهجوم على نوعية أفلام مثل روايات إحسان عبد القدوس التى أظهرت نماذجا حاول المجتمع أن يخفيها طويلا، مثل الزوجة الخائنة والرجل الديوث والعاهرة والفتاة اللعوب..لدرجة أن لفظ واحد خارج تلفظت به فاتن حمامة فى فيلم الخيط الرفيع أغضب معجبيها لشهور..
ثم ظهرت حقبة أفلام يوسف شاهين التى كانت تقع تحت مقص الرقيب لما تحتويه من شتائم ومشاهد جريئة ومعان غير مفهومة ولكنها كانت علامة فارقة فى تاريخ السينما المصرية.. وتتلمذ على يديه المخرج خالد يوسف الذى كشف الغطاء عن عالم العشوائيات بكل ما فيه من محاذير وتجاوزات وخطايا.. فكانت أفلام مثل (حين ميسرة) و(دكان شحاتة) و(هى فوضى) أعمال دقت ناقوس خطر فى مجتمع رفض الاعتراف بخطاياه وتسلح بفضيلة زائفة.
مدرسة الروابى لا للتنمر ونعم للتمرد:
وظهرت نتفليكس المنصة الترفيهية التى أسسها ريد هاستنغز ومارك راندولف عام ١٩٩٧، فى سكوتس فالى كاليفورنيا.. توسعت شركة نتفليكس بإنتاج الأفلام والبرامج التليفزيونية، وتوزيع الفيديو عبر الإنترنت.
يبدو أن نتفليكس شركة قررت التحدى بتقديم أعمال تتسم بالجرأة، والواضح أن هناك نماذج كان مقررًا تمريرها من خلال هذه الشبكة مثل الشواذ وقضاياهم التى يتم التعبير عنها بكل فجاجة وتحد، تقريبا فى كل أعمال الشركة حتى أفلام الكارتون!..
فهل هى رسالة يريدون توصيلها للعالم أم هى محاولة لطمس هويتنا العربية؟!..وأيا كان الغرض، فالرد جاهز: «وبيشتركوا ليه؟!».
أطلّت علينا نتفليكس بإنتاجٍ جديد ناطق بالعربية لمجموعة من الأعمال، ومنها مؤخرا عمل أردنى أثار جدلا كبيرا فى الأردن، ألا وهو مسلسل من ست حلقات يُدعى» مدرسة الروابى للبنات».
مجموعة فتيات فى مدرسة للبنات، يعانين من قضية فى غاية الأهمية وهى قضية التنمر بين المراهقين، من خلال تعرض إحدى طالبات مدرسة الروابى للتنمر من قبل مجموعة من زميلاتها، كما يتطرق المسلسل بالتوازى إلى قضايا مهمة مثل التحرش وجرائم الشرف..قضايا مسكوت عنها فى مجتمع أبى أن يعترف بوجودها ولا حتى أن يشير لها ولو فى الدراما..اتهام آخر طال المسلسل يؤكد أنه سيؤثر على الفتيات وسينقل لهم صورة سيئة وأنه مخطط لتغيير والتأثير على المجتمعات العربية!..
الأكيد أن المسلسل بالفعل رائع وواقعى وناجح، حيث نال نسبة مشاهدة عالية جدا.
لم يكن هذا هو المسلسل الأردنى الوحيد الذى تلقفته أيدى صناع الدراما فى نتفليكس، فقد تكرر نفس السيناريو منذ عامين بعرض المسلسل الأردنى (جن) الذى تناول قصة مجموعة من الشباب يقومون برحلة إلى مدينة البتراء بالأردن ويستدعون الجن الذين يقال إنهم كانوا سكان المدينة يوم ما، إلى أن الألفاظ النابية والمشاهد الخارجة بالمسلسل أقامت الرأى العام ولم تقعده، تم الهجوم على المسلسل حتى وصل الأمر بتقديم بلاغ إلى النائب العام لوقف المسئول عن عرض هذا المسلسل ومن قاموا بكتابته!.
ونفى الكثيرون كالعادة أن يكون للواقع الأردنى أى علاقة بهذا التدنى والإسفاف الأخلاقى!.
دور الدراما:
تحكمت الرقابة طويلا فى نوعية الأفلام والمسلسلات المعروضة فى مصر.. وانقسمت الآراء بين مؤيد لوجود الرقابة حتى لا تسقط الدراما فى قبضة الابتذال، وبين معارض لفكرة تكميم الأفواه وتكبيل الأفكار..
ثم ظهرت المنصات الخاصة التى تقدم نوعية مختلفة من الدراما، نوعية لا تخضع لشروط ولا لرقابة، فنتفليكس مثلا ليست منصة مفتوحة بل هى منصة تخضع لاشتراك وبالتالى فالمشاهدة خيار وليست إجبارا..
هنا أصبح هناك سؤال حائر يحتاج إلى إجابة حاسمة..وما هو دور الدراما؟ أو بالأحرى ماذا ننتظر من الدراما؟ هل الدراما هى الطبيب الذى يشخص ويعالج ويصف الدواء؟ أم أنها فقط أداة لطرح القضايا وتسليط الضوء على مشكلات المجتمع وترك المجتمع ذاته ليلعق جراح نفسه ويستعدل بوصلته.
نحن فى المجتمعات العربية تعودنا أن ننكر أن لدينا سقطات، ننكر أننا نحتاج للاعتراف بوجود مشكلة حتى نستطيع علاجها، ومن هنا تظهر الدعوات بتحجيم دور الدراما فى النوعية التى تقدم الوعظ والابتعاد عن الاعتراف الحقيقى بأن التكولوجيا وإيقاع العصر السريع والأجيال الجديدة لها رأى مختلف ووجه مختلف.. أجيال لا تخشى الحقيقة ولا تتوارى خلف الشعارات..
تقول تيما الشوملى، مؤلفة ومخرجة مسلسل «مدرسة الروابى للبنات»:
«لا نتحدث فى دراما مجتمعاتنا العربية عن هذه الفئة العمرية من الفتيات، لذلك أتمنى أن ترى الفتيات العربيات نفسها فى هذا المسلسل، وأن تتحدث كل منهن عن مشاكلها، وتقول (نعم أنا أمر بنفس المشكلة، لقد واجهت نفس الموقف) لأننى عندما كنت فى نفس المرحلة العمرية التى نقدمها فى المسلسل، لم أجد الدراما التى تعرض مشاكلى، لذلك أردت تقديم هذا المسلسل».
رسالة نبيلة حققت هدفها بلا جدال.
أمثلة وانتقادات:
كم من عمل درامى مصرى مؤخرا أثار جدلا وانتقادات بين مؤيد ومعارض، فعلى سبيل المثال مسلسل «سابع جار» أثار الكثير من اللغط لما فيه من جرأة شديدة فى طرح الكثير من الموضوعات، على الرغم من الإعجاب الشديد من قبل المراهقين لفكرته وموضوعه..حتى أن الحوار الذى وصفه المتحفظون بالمبتذل، وصفه الشباب بالواقعى والأقرب إلى لغتهم!.
وهناك أيضا مسلسل (نمرة اتنين) الذى لاقى اعتراضا واسعا من الجمهور المصرى حيث تناول فى حلقات منفصلة قضاية الخيانة الزوجية والمخدرات والتحرر الزائد بين الشباب، لكن ولأنه تكلم لغتهم استقبلوه بحفاوة كبيرة ورضا واسع.
هكذا تحول رفض المجتمعات العربية لهذه النوعية من الأعمال إلى مكسب كبير لنتفليكس وغيرها، وتحول الشباب والكبار إلى نتفليكس باحثين عن الرؤية المختلفة والعمل الحُر الذى لا يخضع لضوابط.. إلا أنه ظهرت دعوات مؤخرا تدعو لمقاطعة محتوى منصة «نت فليكس» لما تقدمه من أعمال فنية يرونها البعض أكثر تحررا ولا تليق بمجتمعاتنا العربية، كما هو الحال فى تركيا التى تداولت أنباء عن إنهاء منصة نتفليكس رسميا كافة أنشطتها فى تركيا بسبب قرار أنقرة لمنع ظهور الشخصيات المثلية فى المسلسلات التى تمثل والتى تعرض على أراضيها.
وذكرت الأنباء أن القرار الذى اتخذته تركيا يشمل جميع ما ينتج أو يعرض على أراضيها من مسلسلات تحتوى على مشاهد تروج لـ«المثلية الجنسية».
ويبقى السؤال..متى سندرك أن الممنوع عندنا مسموح لدى غيرنا، وأن كل شاب فى مصر يمتلك جهاز كمبيوتر وبضع دولارات فى جيبه أصبح من السهل عليه اليوم أن يجلس أمام الشاشة ويشاهد مالم تسمح به الرقابة فى بلده..