تبادرَ إلى ذهن كريم الناطور، بعدَما حرمته الإصابة بحساسية الصدر من المشاركة في مبادرة تنظيف شوارع غزة المدمرة، عقب أن حطت الحرب أوزارها في القطاع، فكرة صناعة مشروب "الكركديه" المُثلج، ليقدمه للأطقم الفنية المُرسلة من مصر، لرفع الأنقاض التي خلفها القصف الإسرئيلي، مهرولاً إلى تَطبيقها بمبلغ (200) شيكل فلسطيني اقتصده في حصالته من مصروفه الخاص "شريت بهم خامات العصير عشان نبرد علي العمال المصريين من الشوب.. ونحسسهم أنهم ببلدهم التاني مش مهمة وخلصت.. بدي يشوفوا كرم أهاليهم الغزاويين عشان يحكوا عنا للعالم إننا نحب السلام والحياة وما تهزنا الحروب وديورنا هنعمرها يد غزاوية ومصرية"، معبرًا عن نظرته للتآخَي والمحبة بين الشعوب بمبادرته "أنا كريم.. هنعمرها".
بَدت غُرة فكرة الطفل صاحب العشر سنوات، في الخامس من يونيو الجاري، بعدما أوضحت له والدته منار السراج، مديرة برنامج بريدج فلسطين، خلال متابعتهم للأنباء عن وصول قافلة تضم أطقم فنية ومعدات هندسية، لإعمار غزة قادمة من مصر، بعد الحرب الأخيرة -التي استمرت لأحد عشر يومًا- فأحثتهُ الأم على تنفيذ الفكرة وساعداته برفقة عمته في تحضير المشروب الذي يفضله الابن الأصغر، المخول له مهمة تنظيف الزجاجات، وصَب العصير، ووضعه في الثلاجة ليلاً "بعد ما أفيق من نومي بشوي اخرج العصير وأرصه في الصندوق أنا والماما وعمتي وعلى الظهر نروح على مواقع البلدية والعمال والمهندسين المصريين ونوزع عليهم"، اِنتابهُ شعور بالسعادة بعدما تراءى ابتسامة العمال، وأنه ساهم في إعطائهم جزء من الطاقة ليتسمروا في عملهم بنشاط.
فصح الطفل، في حديثه مع المهندسين المصريين- الذين ظلوا يدعمونه "برافو يا كيمو"-، حتى عاهدوا بإعمار مدينته وإزالة الركام وبناء الأبراج أفضل من قبل من أجله هو وجميع أطفال غزة "فرحوني كتير بأنهم اجوا لهون مشاني أنا وأصحابي.. عشان هيك بضل بالليل أقول للماما بدنا مشروبنا يكون أحسن اشي وصحي عشان نشيل هاد الأثار"، الذي يظل يذكره بأسوء أيام الحرب "كان الليل مختلف عن هيك نحط السماعات في إدانا عشان ما نسمع القصف ولكن من شدته خاصة أنه قريب منا كنا نشرد من الدار ونعود أبعد الفجر حتى شردنا عند سيتو وتركنا السلحفاة والنباتات وضل قلبي يمهم حتى الهدنة"، مُتحديًا المُحتل مهما حاولوا قتل طفولتهم وبراءتهم، الذي يأمل أن يعيشها مثل أطفال العالم.
جاد "الناطور"، بما عنده، ليس فقط في إكرام العمال المصريين، بل فطن لأزمة صعوبة وصول رجال الدفاع المدني، لطعام خلال ساعات العمل، بالإضافة لتكلفته فتأهب لتجهيز "مناقيش الزعتر والدقة الفلسطينية"، التقطت منه أطراف الحديث والدته "حتى نساعد على مقاطعة شراء المنتجات الإسرائيلية.. مقاطعينها من سنوات وكريم بس يروح على السوبر ماركت معه الكود وما يقرب حتى من الشيكولاتة اللي بيحبها وبس يشتري منتجات بلده". رجيَ الطفل عن الكلام برهةٍ، ثم عاود لحديثه عن استكمال مبادراته التي تمد أطفال جيله واستغلال هوايته المفضلة في الرسم من أجل إدخال السعادة لقلوب الأطفال الذين أصيبوا بجروح في الحرب "راح نزورهم بالمستشفى ونهون عليهم بالوحات".
اكتسب طالب الصف الرابع الإبتدائي، مفهوم السلام من عائلته والمدرسة، لاسيما والده الأكاديمي محمد الناطور، الذي يعمل أستاذًا بكلية التربية الرياضية في جامعة الأٌقصى، قاطعته مرة أخرى والدته "مبسوطة أن الحرب والعمار بيصيروا أدام أطفالنا عشان يتوارث السلام والمحبة بينهم.."، مدلَّلة على حديثها بتعاون أصحاب وجيران كريم في تجهيز المشروب في المنزل، ولكن كان من الصعب رفقتهم للمواقع لأمانهم فقط، وتكفل إبنها الأصغر بالتوزيع والنزول والصعود هنا وهناك. خفف الوطءَ صوب أحد المهندسين الذي شجعه على الدراسة حتى يلحق بكلية الهندسة، لكن الطفل أخبره بحلمه أن يكون عالم فضاء، صافحه وشد على يده "شد حيلك يا بطل".