د. رشا سمير تكتب: أنا وفرويد والرجال
(طلبت إلكترا الجميلة من أخيها أن يثأر لموت أبيها أغاميمنون، وذلك بقتل أمّهما كليتمنسترا، عقابا لها على مشاركتها فى قتل زوجها، والد إلكترا، الرجل الذى كانت تحبه ومُغرمه بشخصه).
تلك هى أسطورة إلكترا الإغريقية التى استوحى منها سيجموند فرويد «عقدة إلكترا»..
العُقدة ببساطة كما وصفها فرويد تكمن فى تقرب البنت من أبيها بل كيف ينتابها شعوراً بالغيرة تجاه أمها لأنها تراها العقبة التى تقف أمامها فى طريق الاستحواذ على أبيها، فتحاول إبعادها عنه، لكنها لا تستطيع، ومن هنا تأتى محاولة الطفلة اكتساب عادات أمها وأفكارها وسلوكياتها. طالما استوقفتنى نظرية فرويد، فأنا فتاة أؤمن بالنظريات الفلسفية وأقرأ كثيرا فى علم النفس.
أرجوكم، لا تعتبرونى فتاة مُعقدة..
لقد استوقفتنى نظريات فرويد بالتحديد عندما بدأت محاولاتى لتحليل علاقتى بأبى..
أبى رجل عسكرى بشدة رغم كونه مهندسا معماريا!..فهو يرتدى الأخلاق العسكرية..صارم الوجه، عبوس الملامح، يبتسم بحساب ويتحدث بحساب، غير قابل للحديث ولا الإقناع..
أما أمى فهى سيدة رقيقة جميلة هادئة الملامح والطباع، لكنها طيبة القلب جدا مما جعلها ضعيفة الشخصية لا تتحدث إلا من خلال آراء أبى ولا تتبنى إلا وجهات نظره..التى هى عادة ما تكون وجهات نظر قمعية ديكتاتورية غير قابلة للطعن عليها.
هكذا نشأت فتاة ذات شخصية مذبذبة، مترددة، خائفة دوما من اتخاذ القرار..وطالما تعجبت لشخصية إلكترا التى وقعت فى غرام أبيها!... ربما كان أبوها رجلا لطيفا، أعطاها مساحة من الحرية وتقبل وجهة نظرها، أو كانت والدتها تمتلك شخصية قوية، قادرة على مساعدتها فى التصدى لديكتاتورية والدها..
حاولت التمرد مرارا، حتى توصلت فى النهاية إلى قناعة بأن التمرد لن يكون سهلا على واقع مخيف وأب مسيطر ولكنه سوف يكون ممكنا فى المستقبل.. أصبح هروبى من بيت أبى، إلى بيت رجل آخر، هو الحل لتصبح قراراتى فى يدى..
لم أتردد طويلا عندما تقدم إلى «خالد» ابن صديق أبى الوحيد، الشخص الذى كنت ألمح الإعجاب فى عينيه كلما مررت أمامه فى أى مناسبة..
بمنتهى الصراحة لم أجد فى خالد أى صفة من صفات فارس أحلامى، ولكنه شاب طيب جدا.. بعكس أبى الذى كان من الممكن أن يقوم بسهولة بدور زكى رستم فى فيلم نهر الحُب!..
وتزوجنا...
مرت الأيام وأنا فى سعادة وحب..لم تستوقفنى كثيرا بعض المشكلات الصغيرة، التى أصبحت مع الوقت مشكلة واحدة كبيرة تهدد حياتى..
خالد شخص هادئ جدا..هادئ إلى درجة الكآبة، لا يقرأ ولا يهوى مشاهدة الأفلام، لا يتحدث فى المجتمعات إلا قليلا، لا يستمع إلى الموسيقى، ويخاف من الخوض فى المناقشات السياسية لأنه مواطن يسير بجانب الحائط.. ولا يفهم سوى فى كرة القدم..لم أره مبتسما إلا عندما يفوز الأهلى بالدورى، ولا أسمع صوته إلا عندما يصل المنتخب القومى إلى بطولة إفريقيا..
أما بخلاف ذلك فهو...صامت!.
لكن خروجى من شرنقة أبى كان يساوى محاولة التأقلم على خالد وطباعه..فاضطررت كثيرا إلى التغاضى عما يثير ازعاجى..
مرت ثلاثة أعوام على زواجنا..والموقف يتأزم ليصل بنا إلى مواقف أشد تأزما...وما تغاضيت عنه بالأمس أخذنى بعد ولادة ابنتنا إلى طريق مسدود..
أصبحت مع الوقت شديدة العصبية، لا أحتمل ردود أفعاله، ويستفزنى صمته ولا مبالاته، بل لم أعد أشعر بأى رغبة فى التقرب منه، حتى قُبلته أصبحت حملاً ثقيلاً على قلبى..
وفى يوم الجمعة الأول بعد عيد زواجنا الخامس..قمت من النوم مبكرا كعادتى، وجلست فى سريرى وأنا أنظر إلى خالد النائم بجوارى يغط فى نوم عميق وأتعجب...
فجأة هززت كتف خالد بكل هدوء، فتقلب ولم يرد، أعدت المحاولة...ففتح عينيه ونظر إلىّ باستغراب قائلا:
«عايزة إيه بدرى كده..أنا مش قادر أفتح عينى، عايز أنام».
قلت بكل هدوء:
«عايزة أتطلق.. قوم طلقنى وكمل نوم!».
بالفعل تم طلاقى فى هذا اليوم، ولا أعلم إن كان خالد قد استكمل نومه بعد انصراف المأذون أم لا، لكن ولأننى أعرفه جيدا، المؤكد أنه عاد مرة أخرى إلى الفراش ليستعد لمباراة القمة!.
عدت إلى بيت أبى من جديد، مُطلقة فى السابعة والعشرين من عُمرى..
عُدت لأن أبى رفض رفضا قاطعا أن أعيش فى شقة بمُفردى وأنا أحمل لقب مُطلقة!. حاربت كثيرا لأستكمل خطة الاستقلال التى بدأتها منذ تزوجت، ولكن أبى استعمل كل الأسلحة الخفيفة والثقيلة لأسلم كل قلوعى وأعود إلى سجنه مرة أخرى..
هكذا عُدت إلى الأسئلة البوليسية القديمة من جديد:
(رايحة فين؟ مين اللى بيكلمك متأخر كده؟ هو مش اللبس ده قصير شوية على واحدة متطلقة؟ يعنى إيه تسافرى مع أصحابك، هو أنت فاكرة نفسك لسه صغيرة).
تحملت شهر..شهرين..ثلاثة..سنة..حتى كدت أن انفجر، بل كدت أن أعود إلى خالد أتوسل إليه أن يعيدنى إلى عصمته الكئيبة من جديد.
ثم رتب لى القدر مفاجأة لم أكن أتوقعها...«حاتم».
حاتم رجل أعمال، لديه شركة سياحة خاصة ورثها عن أبيه ويديرها بمساعدة أخيه الأصغر.
حاتم...رجل أنيق المظهر، منمق الملبس، خلاب الحديث، يرتدى ساعة يد سويسرية باهظة الثمن و حذاء إيطالى فاخر.. التقيته فى حفل خطوبة أحد صديقاتى، جلست معه وسط العديد من الأصدقاء..يحكى ويقص ويروى، ونحن منبهرون بحسن حديثه وكلماته المُنمقة.
فى نهاية الحفل، اقترب منى وقال هامسا فى أذنى:
« هو ممكن أعزمك على الغداء علشان عايز أخد رأيك فى حاجة ليها علاقة بفيللا بابنيها فى الشيخ زايد؟».
حكى لى عن زواجه الأول، وكيف أنه يكن لطليقته كل الاحترام، فعندما تحتاجه فى أى وقت لا يتأخر، لأنه مؤمن تماما بالطلاق المتحضر..انبهرت بفكره وآرائه التى امتلك بها كل حواسى وجوارحى.
تزوجنا بعد أقل من شهرين..لم أكن أتمنى زوجا أفضل من حاتم، وكان هروبى مرة أخرى من بيت أبى هو دافعى الأكبر.. سافرنا فى شهر عسل طويل قصير جدا..فالسعادة بين أحضانه كانت قصيرة دائما مهما طالت المدة..وعرفت للعشق طعم آخر لم أتذوقه مع خالد.
فى إحدى الليالى وبعد انتهاء مأدبة العشاء التى أعدتها أعز صديقاتى للاحتفال بزواجنا، وقفت على باب البناية فى انتظار أن يأتى حاتم بالسيارة، فإذا بحديث غريب يترامى إلى سمعى.
قالت سيدة تقف إلى جوارى هامسة فى أذن إحدى صديقاتى: «عارفة الراجل اللى متجوز صاحبتك ده، كان متجوز واحدة قريبتى وكان بيضربها، وبعدين طلقها بعد ما بهدلها وبهدل عيالها، ده واطى جدا وكذاب، مستغربة صاحبتك عاجبها فيه إيه؟».
لم أصدق ما سمعت، لابد أنها واهمة، لابد أنه تشابه فى الأسماء، أو ربما إنها تكرهه لسبب ما لا أعرفه..لم أنم ليلتها ولم أنم الليالى التى تلتها.. لم أصدقها.. لكن لم أستطع أيضا أن أكذبها..
فأنا لم أتعرف على حاتم بما يكفى، لكن كلماته وحبه كانت طريقه إلى قلبى فكيف أحتاج إلى مزيد من المعرفة..ربما آن أوان أن أُفتش عن الحقيقة..
ذهبت إلى مقر شركته وسألت عن مكتب رئيس مجلس الإدارة، ففوجئت أن المكتب ليس مكتبه، بل بأن الشركة ليست شركته، فالشركة شركة عمه وأبناء عمومته وهو يعمل لديهم كمدير عام للتسويق!..وذهبت إلى زوجته، فكانت تلك الزيارة كفيلة بالرد على كل أسئلتى وحيرتى..
حاتم مريض! مريض بداء الكذب..يكذب كما يتنفس..تلقائيا..والمواجهة تحوله إلى وحش كاسر!.
بعد طلاقى للمرة الثانية، عدت إلى أحضان والدى من جديد، وكأن إلكترا كُتب عليها أن تبقى للأبد سجينة فى قفص أغاميمون.. لم أعارض هذه المرة، ولم أتناقش، فقد أيقنت بعد العمر الطويل أن أبى هو قدرى الذى لا مفر منه.. التقيت بريتشارد فى رحلة عمل إلى باريس..رجل فرنسى الجنسية، لطيف وجذاب..له عقلية متميزة، وطريقة مختلفة عن الشرقيين فى الحديث والتفكير والمجاملات..بل الحب!.
وقع فى غرامى وبادلته الحب، فى أقل من شهر أشهر إسلامه ثم تزوجنا فى هدوء شديد..
عشت معه حياة مختلفة كلها سهر وخروج ومتع دنيوية..سافرنا إلى سويسرا للتزلج على الجليد..وذهبنا إلى لبنان للعشاء مع أصدقاء..وهربنا إلى الواحات فى رحلة سفارى..ثم إلى أسوان لرؤية النيل.
لكن لن أنسى ما حييت، يوم أن عدت إلى المنزل مبكرا من إحدى سفريات العمل لأجده بين أحضان امرأة أخرى فى فراشى!.
لم أصدق عيناى، فالاختلاف الذى كان يوما سبب انجذابى إليه لم يكن فقط اختلافاً فكرياً بل كان أيضا اختلافاً عقائدياً..اختلاف عقائدنا جعله يرى الموقف على أنه غلطة لابد من تجاوزها..وجعلنى أرى الموقف على أنه صفعة وسقطة يجب أن تنتهى بالطلاق..
سيدى المتحذلق فرويد..لقد توصلت إلى عدة نتائج بعد كل تلك التجارب مع الرجال، ربما هى نتائج أفضل بكثير من نظرياتك، لأنها تجارب حياتية حقيقية، أما أنت فتكتب من واقع النظرية البعيدة عن الواقع..
أولا: النتيجة التى توصلت إليها بقناعة تامة، أن الطلاق الأول هو أصعب طلاق يمر بحياة المرأة، فهى تتردد مائة مرة قبل أن تدخل فى مشروع حمل لقب «مُطلقة»، اللقب الذى أصبح ينافس لقب «عانس» عن جدارة.. أما الطلاق الثانى والثالث فهما من أسهل ما يكون..لأنهما طلاق يحمل صفة شكة الدبوس أو كلاكيت تانى مرة!..
والنتيجة الثانية، هى أن المجتمع لن يكف أبدا عن تحميل المرأة كل أسباب الفشل فى حين أنه يجد للرجل ألف سبب للطلاق..فالمرأة التى تنفصل تُسمى «مُطلقة» والرجل الذى ينفصل يُسمونه «مُنفصل»..
هدم البيت خطأ تتحمله المرأة وحدها، ونفسية الأطفال التى تتعقد، هى تبعيات لطلاق تسعى إليه الزوجة..أما إذا كان الطلاق هو طلب الزوج فساعتها يصبح رجلا قد فاض به، بعد أن تحمل كثيرا وطفح كيله..والمرأة حين تتزوج من جديد تصبح امرأة منفلتة تبحث عن المتعة، وصائدة رجال..أما الرجل الذى يتزوج من جديد فهو رجل مسكين لا يعرف كيف يصفف شعر ابنته فى الصباح، ولا يعلم أين تضع زوجته عُلبة الدواء حين يصاب ابنه بالأنفلونزا..ومن هنا يصبح زواجه ضروره ملحة لإنقاذ الأطفال..أما زواجها فهو مرحلة عبثية تؤدى إلى انفلات الأبناء!.
أما النتيجة الأخيرة والأهم، هى الأب..فكما كان أبى دافعا قويا لى على الزواج للفرار من قبضته...فهكذا هو الأب فى حياة كل إلكترا..فكم من فتيات يظنوا أنهن سوف يهربن من جحيم الأب إلى جنة الزوج..فإذا بالمفاجأة أنهن ينتقلن إلى جحيم آخر..وكم من فتيات اكتشفن أن جحيم الأب يكون أحيانا أقل نارا من جنة الزوج..
أنا الآن فى الخمسين من عمرى ومازلت أعيش فى بيت أبى، بعد أن توفيت أمى.. مازلت أختلف معه، ومازال يرانى صغيرة، فمازال ينتقد ملابسى وتصرفاتى، ومازال يمنعنى من الخروج حتى ساعة متأخرة من الليل..ومازلت أستمع إليه وأنا غير مصدقة لطريقته التى لا تتغير حتى عندما أصبح كهلا عجوز لا يستطيع النهوض من الفراش..ولا عجب فهو فى النهاية رجل..والرجال لا يتغيرون، ولا يتطورون مع الزمان، ولا يكفون عن الانتقاد!..
عزيزى فرويد..أكتب إليك اليوم لأقول لك، نظرياتك خائبة..وفلسفتك بعيدة جدا عن الواقع..فقد أصابنى أبى وكل الرجال فى حياتى بعُقدة مستديمة.
اليوم فقط استطعت أن أجد ممرضة تقوم برعاية أبى لمدة أسبوع..وقررت أن أسافر إلى إسطنبول إلى رحلة استجمام وحيدة بلا أنيس سوى نفسى.
ركبت الطائرة وحاولت ربط حزام المقعد، لكنه لم يدخل فى مكانه، يبدو أن به عطلاً ما، بداية غير مُبشرة جعلتنى أتشائم من البداية.. فجأة امتدت يد الشخص الجالس بجوارى، ليجذب الحزام من يدى، وقام بضبط اللسان بحركة سريعة ثم أدخله فى مكانه، ابتسم لى وقال بهدوء شديد:
«كده تمام.. أنا أسف على التطفل..لقيتك محتاسة حبيت بس أساعد».
وهكذا التقيت «باسم».... زوجى الرابع!.