د. نصار عبدالله يكتب: الكورونا.. انتقام الطبيعة
للوهلة الأولى تبدو الأوبئة بوجه عام ومن بينها الكورونا وكأنها شر مطلق، لكننا إذا أمعنا النظر فى أمرها سرعان ما سوف يتبين لنا أنها برغم شرورهاـ لا تخلو من جوانب إيجابية سواء بالنسبة للطبيعة أو بالنسبة للإنسان ذاته، فبالنسبة للطبيعة نجد أن الأوبئة هى واحد من الأسلحة التى تدافع به عن نفسها ضد ما يعيثه الإنسان فيها فسادا، سواء تمثل هذا الفساد فى تلويث هوائها ومياهها بمخلفاته المختلفة، أو تمثل فى اقتلاع غاباتها وخضرتها والسطو الجائر على مواردها وتغيير ملامحها بوجه عام إلى الأسوأ، فلولا الأوبئة لاستنزفت موارد الطبيعة تماما ولضاقت الأرض بسكانها منذ مئات القرون، والنتيجة الحتمية لذلك هو أن يموت الناس بفعل الجوع بدلا من أن يموتوا بفعل الوباء، أو على أضعف الإيمان أن يتقاتلوا فى نزاعهم على الموارد التى سوف تصبح بعد حين غير كافية للوفاء باحتياجاتهم جميعا وفى الحالة الأخيرة فإنهم يقومون بأنفسهم بما لم يقم به الوباء ذاته من إهلاك عدد كبير منهم وذلك من خلال الحروب المختلفة التى تمخضت على مدى التاريخ البشرى عن مئات الملايين من القتلى، وسواء هلك الناس من الأوبئة أو هلكوا من المجاعات أو هلكوا من الحروب، فإن التوازن سرعان ما يعود بين أعداد البشر وموارد الطبيعة، وفى نفس الوقت يعود التوازن بين قدرة البشر على الإفساد وبين قدرة الطبيعة على تجديد نضرتها وخضرتها وتعويض جانب من مواردها الطبيعية التى قام الإنسان بنهبها...السطور السابقة هى خلاصة مبسطة لنظرية توماس روبرت مالتوس التى طرحها لأول مرة فى نهاية القرن الثامن عشر ثم قام بتطويرها وإعادة نشر كتابه: بحث فى السكان فى أوائل القرن التاسع عشر، وفى رأى مالتوس أن البشر مالم يتعرضوا للأوبئة أو الحروب يتزايدون بمعدل الضعف فى مدة قدرها خمسة وعشرون عاما، ثم يتضاعف عددهم مرة أخرى فى الخمسة والعشرين عاما التالية أى أن المليون الواحد فى بداية قرن من القرون سوف يصل إلى ستة عشر مليونافى نهايته وسوف يصل إلى 256 مليونا بعد قرن آخر، وسوف يصل إلى 512 مليونا بعد 225عاما ثم إلى ما يزيدعن مليار بعد250 عاما فقط، أما الموارد فإنها لا تزيد بنفس هذه النسبة، وعلى هذا فإن المليون الذين كان لديهم ما يكفيهم فى بداية المدة لن يجدوا إطلاقا ما يكفيهم بعد قرنين أو ثلاثة مهما اجتهدوا فى زيادة مواردهم، ومالم تتكفل الأوبئة بتحجيم الزيادة فى أعداد البشر، فإن الموت جوعا أو حربا سوف يتكفل بها، وفى جميع الحالات فإن الموت بفعل الأوبئة هو أقل البدائل سوءًا، لأنه لا يعرض البشر لما تعرضهم له الحرب من الفظائع الأخرى التى كثيرا ما تفوق الموت فى الفظاعة. والواقع أن ما خلص إليه مالتوس لا يخلو من الصواب، وقد كانت نظريته واحدة من الأسباب التى دفعت كثيرا من الأمم الراقية إلى جعل تنظيم النسل فى مقدمة أولوياتها، وإن كانت نظريته فى الوقت ذاته قد أسىء توظيفها من جانب الكثير من الأنظمة العنصرية والفاشية لتبرير ما ارتكبته تلك الأنظمة من جرائم. نعتذر عن هذا الاستطراد لكى نعود إلى وباء الكورونا الراهن لكى نقول إنه شأن سائر الأوبئة لا يخلو من مردود إيجابى، ليس من المنظور المالتوسى (وإن كان من مآثر ذلك المنظور أنه ذكرنا بما انطوى عليه من جوانب إيجابية، فقد ذكرنا مثلا بمدى أهمية المحافظة على نقاء الطبيعة والإبقاء على التوازن الطبيعى بين مكوناتها حيث إن تلوثها أوالإخلال بتوازن مكوناتها يعد عاملا من العوامل المساعدة على تفشى الأمراض) نعود إلى القول بأن الوباء الراهن لا يخلو من مردود إيجابى حتى لو نحينا المنظور المالتوسى جانبا، فقد أدى الوباء إلى انشغال العالم بأسره بقضية واحدة، كما أدى إلى خلق نوع من التعاون العلمى والبحثى بين الكثير من الدول التى كان يصعب قبل كورونا أن نتصور قيام أى نوع من التعاون بينها، وقد أثبت بذلك أنه ما زال هناك الكثير مما يوحد البشر فى الوقت الذى مازال يوجد فيه الكثير مما يفرقهم، وكلما ازدادت حدة الكورونا كلما وجد البشر أنفسهم مجبرين على تنحية خلافاتهم جانبا والالتحام جنبا إلى جنب فى مواجهة عدو واحد مشترك، وقد أثبت التاريخ دائما أنه لا شىء يوحد ما بين أولئك الذين يحتسبون أنفسهم فى عداد الأعداء أكثر من أن يكتشفوا أن هناك عدوا آخر أشد عداوة وضراوة لكليهما، وإذا كان لنا أن نضرب مثالا من أبرز الأمثلة التاريخية على ذلك فهو التحام الاتحاد السوفيتى السابق مع عدوه الأمريكى اللدود فى مواجهة النازية حينما اكتشف كل منهما أنها العدو الذى يتعين عليهما معا مواجهته.